كان عنوان هذه المقالة صراع الأجيال ، و لكني عدلت عنه الى اختلاف الأجيال و تغاير الأزمنة ، ذلك ان كلمة يَصرع تعني لغوياً : يطرح الآخر و يلقيه ارضاً ، و الصَريع من أصابهُ داء فصرعه ، و لذلك تبدو هذه الكلمة متسمة بقدر من الحدة و ربما تقود الى الغاء الآخر.

و الاختلاف يعني التغاير سواء أكان في الرؤى أم الأفكار أم المواقف ، و من ثم فهو اقرب الى الحديث عن الأجيال المتلاحقة التي تكاد لا تتماثل مطلقاً نظراً لاختلاف الأزمان.
و لا اريد ان احدد الجيل بسنين معدودة كما فعل ابن خلدون ، اذ جعلها أربعين عاماً ، و من ثم تتلاحق الأجيال تباعاً ، و هذا التحديد ربما يواجه انتكاسة في ازمان التغير السريعة فنلتقي بأجيال اعمار كل منها عشر سنوات ، كجيل الستينات و جيل السبعينات و هكذا ، و يذهب انصار هذا التقسيم الى الفواصل الواضحة بين هذه المكونات العشرية رؤى و ابداعاً.
و يتجلى الاختلاف بحسب صيرورة الناس و المجتمع في الزمن ، و الزمن لا يعرف الاستقرار لدرجة هجاه أبو العلاء المعري بقوله ( ان الزمان كأهله غدار ) بخلاف من يرى في صيرورته تغيراً نحو الأفضل و الأحسن.
أن الزمن يحدث خلخلة في طبيعة العلاقة بين الآباء و الأبناء ، و لذلك تبدو الشكوى الممزوجة بالمرارة من الآباء في توجيه اللوم لأبنائهم كونهم يخرجون عن العادة و المألوف ، و يتمردون على الثوابت التي اعتاد الناس على التمسك بها ، و من ناحية ثانية يتذمر الأبناء من محاولة الآباء فرض سطوتهم على أبنائهم و محاولة إعادة صياغتهم بحسب ما اعتادوا عليه و ألفوه ، متناسين مقولة الأمام علي عليه السلام ( رَبوا ابناءكم غير تربيتكم لانهم ولدوا في زمان غير زمانكم ) اذن تغاير الأزمنة يقود الى تغاير في الموجودات و تغاير في الرؤى والأفكار.
و حين يصر الآباء على زج الأبناء في زمانٍ غير زمانهم فكأنهم يعمدون الى إعادة التاريخ ، و الحق ان التاريخ لا يعيد نفسه ابداً لسببٍ بسيط ان الزمن كمجرى نهر و انك اذا نزلت فيه مرتين فان مياه جديدةً تمر عليك ، و ( اذا أعاد التاريخ نفسه فانه في المرة الأولى مأساة عظيمة و في المرة الثانية ملهاة مضحكة ) كما يقول كارل ماكس.
و في تقديري فان الجذر الاجتماعي للتغاير و الانتقال من الجيل القديم الى الجيل الجديد يكمن في هذا التغير الكائن في الزمن. و لست مبالغاً اذا قلت ان هناك عوامل تخص الذوات الإنسانية ( الآباء / الأبناء ) و عوامل خارج هذه الذوات يمكن ان نسميها تجاوزاً الموضوعية.
و لا ريب ان العوامل الداخلية للأبناء تتشكل في أجواء تتعارض أو تتغاير مع الأجواء التي ولدت العوامل الداخلية للآباء فضلاً عن الظروف المحيطة بهم ، كونها تمثل المتغيرات الحاصلة في الواقع و ما تحدث فيه من تقلبات.
و لم يبخل علينا الادب العربي من التعبير من هذه الشكاوى و التذمر لدى الآباء ، و لأنني من جيل الآباء ، و كوني منحازاً اليهم سأسرد عليكم قطعتين شعريتين ، الأولى لامية ابن ابي الصلت يعاتب فيها ابنه ، و الثانية لامرأة من بني هزان تدعى ام ثواب قالتها في ابنها و قد عقها.
يقول امية بن ابي الصلت
غَذَوْتُكَ مولوداً وَعْلتُكَ يافعاً تُعَلُّ بما أُدْنِي إليك وتَنْهَلُ
إذا ليلةٌ نابَتْكَ بالشَّكْوِ لم أَبِتْ لشَكْواكَ إِلا ساهراً أَتَمَلْمَلُ
كأني أنا المطروقُ دوَنكَ بالذي طُرِقْتَ به دوني وعينيَ تَهْملُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عليكَ وإِنها لتَعلمُ أن الموتَ حتمٌ مؤجّلُ
فلما بَلَغْتَ السِّنَّ والغايةَ التي إليها مَدَى ما كُنْت فيكَ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جزائي منكَ جَبْهاً وغِلْظةً كأنكَ أنتَ المنعِمُ المتفضِّلُ
فليتكَ إذ لم تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتي فَعَلْتَ كما الجارُ المجاوِرُ يفعلُ
وسَمَّيْتَني باسْمِ المُفَنَّدِ رأيُهُ وفي رَأْيِكَ التفنيدُ لو كُنْتَ تعقلُ
تَراهُ مُعِداً للخِلاَفِ كأنهُ بِرَدٍّ علَى أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ
وتقول أم ثواب في ابنٍ لها عقها “

رَبَّيتهُ وهوَ مثلُ الفـرخِ أَعْظَمهُ أُمُّ الطعامِ ترى في جلـدِه زَغَبا
حتى إذا آضَ كالفُحـالِ شَذّبهُ أبارُه ونفى عن متنهِ الكَرَبــا
أنشـا يُمَـزِّقُ أثـوابي يُؤَدِّبُني أبعد شيبي عندي يبتغي الأدبـا
إني لأبصرُ في ترجيلِ لمـــتهِ وخطِّ لحيتِـه في خَـدِّه عَجَبـا
قالـتْ له عرُسُه يوماً لتسمعَـني مهــلاً فإِن لنا في أُمنَّـا أرَبـا
ولو رأتني في نـــارٍ مُسَعَّـرةٍ ثم استطاعَتْ لزادَتْ فوقَها حَطَبا