1

لا يخفى أنّ الإرهاب ليس مجرد ردة فعل ضد أنظمة سياسية مستبدة ، سواء أكانت شمولية أم سلطوية تمارس القمع ، كما أنّ الارهاب ليس مجرد ردة فعل للفقر المدقع الذي اتسعت دوائره بسبب الفجوة الطبقية العميقة بين الأغنياء والفقراء ، كما أنه ليس ردة فعل ضد البطالة التي سرقت أحلام الشباب وقضت على آمالهم وأمانيهم ، وإنما الإرهاب ظاهرة بالغة التعقيد لا يمكن اختزالها مطلقا بواحدة من الأسباب السالف ذكرها ، وإنما هو صناعة مبرمجة منظمة ، صناعة ثقافية / تربوية ، في منشأها وتكوينها الأساس .
ويمثل التنظيم الارهابي ( داعش ) أخطر أنماط الإرهاب ، فلقد أحدث هذا التنظيم تخريبا جغرافيا وتاريخيا وتراثيا في الواقع ، وصدع نسيج المجتمع ، وكفر مللا وديانات ومذاهب ، ومارس أبشع أنواع القمع ضد خصومه ،ـ وكل ما عداه خصوم ـ وكان لآلة البطش التي يستخدمها اثارها المرعبة في النفوس .
ان مثاقفة الفكر الداعشي تأسست في تصوري بناء على المحاور الاتية :
1 مثاقفة الافكار المتطرفة المغالية في التراث ، متواشعة مع فكري ابن تيمية ( 661 ـ 728 هـ ) في الماضي ، ومحمد بن عبد الوهاب ( 1703 ـ 1791م ) في التاريخ القريب .
2 ـ القراءة الحرفية للنصوص الدينية وتفسيرها آليا .
3 ـ المواءمة بين النصوص الدينية والاحداث التاريخية ، لدرجة يصبح تاريخ المسلمين هو تاريخ الاسلام ، بحيث تعاد صياغة الحاضر في ضوء الماضي .
وما كان لهذا التنظيم أنْ يؤدي أدواره البشعة هذه كلها دون عملية غسيل أدمغة الناس ، وتعتمد هذه العملية تأويلا خاصا لنصوص تراثية ، وجدت لها قبولا في أنسجة اجتماعية محددة ، وأصبحت بعد ذلك حواضن للفكر ، وجنودا للقتال .
ومن المؤكد انّ غسيل العقول والادمغة لا يتواري بمجرد تحقيق انتصار عسكري هنا أو هناك ، لان المشكلة اكبر ، بمعنى اخر ان هناك صناعة للثقافة ، وصناعة للتربية ، ولذلك فإنّ مقارعة هذه الصناعة لا بد أنْ يكون بصناعة مضادة قادرة على الإزاحة والإحلال ، إزاحة ما ترسب في العقول من أوهام وأفكار ، ربما تكون ترسخت في العقول والنفوس ، وإحلال ثقافة بديلة سليمة معافاة ، وهذا يعني اننا إزاء معركة ذات صراع ضدي بين ثقافتين ورؤيتين ومنهجين متعارضين متناقضين .

2

وتتجلى معضلة تعرض الأطفال لمدة عامين أو أكثر لعمليات غسيل دماغ مبرمجة ، فقادت الى زرع الفكر الارهابي في وجدانهم ومخيلتهم .ولقد خضع هؤلاء الاطفال لمؤثرات إعلامية صادمة كإغراق المخالفين وإحراقهم أو ذبحهم بطريقة بشعة ، أو اطلاق الرصاص عليهم ، وأكثر من هذا انّ الأطفال شاهدوا ذلك مجبرين مرة ، ويدفعهم الفضول مرة اخرى ، الامر الذي ترك اثرا عميقا في نفوسهم ، وانعكس على سلوكياتهم .
ويلخص تقرير المؤسسة العربية للتنمية بحوث خبراء نفسيين راقبوا العاب خمسين طفلا في الموصل وتبين أنّ 43 منهم كانوا يلعبون بطريقة عنيفة
إذ كانوا يستخدمون قطع الخشب كسكاكين ومسدسات ، ويقلدون الدواعش في القتل والتذبيح الأمر الذي يؤكد تربية جيل مؤمن بالعنف ، وينذر بمخاطر لما بعد تحرير الموصل .
ولقد تعرض الأطفال ، وبخاصة الفئات العمرية بين ( 8 ـ 15 ) الى برمجة وصناعة تربوية ثقافية من خلال الكتب المنهجية التي فرضتها داعش على المناطق التي احتلتها .
وكانت الكتب المنهجية التي اطلعت عليها وهي ( 19 ) كتابا تشتمل كلها على مقدمة واحدة ثابتة متكررة ، وتحدد هذه المقدمة بعض ملامح السياسة التعليمية ، ويمكن تلخيصها بالنقاط الاتية :
يقوم منهج الكتاب على ما اطلق عليه الدواعش ( رؤية صافية لا شرقية ولا غربية )، وتتحدد هذه الرؤية بما يأتي :
أ ـ اتباع خطى السلف الصالح والرعيل الاول لها ، وموافقتها للكتاب والسنة .
ب ـ ابتعادها عن الأهواء والأباطيل وأضاليل دعاة الاشتراكية الشرقية والرأسمالية الغربية .
ج ـ ابتعادها عن سماسرة الأحزاب والمناهج المنحرفة في شتى اصقاع الارض .
إنّ محتوى الكتب المنهجية يتماشى مع مضمون ما اطلقت عليه داعش (الرؤية الصافية ) التي ترتكز على تعليم التلاميذ الجهاد وفنون القتال ، وتسهم هذه الكتب في بث روح الكراهية وتكفير المخالفين وتغرس الافكار المتطرفة في نفوس التلاميذ , ولو توقفنا عند الأهداف العامة لكتاب التاريخ للصف الأول العلمي ـ على سبيل المثال ـ فإنها تتحدد بما يأتي :
1 تنقية التاريخ من الاباطيل التي اقحمت فيه .
2 ترسيخ القيم الجهادية في نفوس أبناء الأمة .
3 تبصير الطلاب بمواقف الولاء والبراءة التي حدثت في السيرة النبوية والخلافة الراشدة .
وتعتمد هذه الأهداف على مستوى التطبيق على القراءة الخاصة للأحداث والأسس والمعايير والتفسيرات التي يحددها ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ، ففي مجال الولاء والبراءة يرى ابن تيمية ( إنّ المؤمن يجب موالاته وإنْ ظلمك واعتدى عليك وإنّ الكافر تجب معاداته وإنْ أعطاك وأحسن اليك) .
أما أهداف تدريس العصور التاريخية المختلفة فإنها تتحدد بما يأتي :
1أنْ يحفظ الطالب الحديث الذي يبشر بعودة الخلافة على منهج النبوة.
2أنْ يعدد الطالب المراحل التاريخية للمسلمين على اساس الحديث .
3أنْ يشرح الطالب خطورة القبور والاضرحة على التوحيد .
4أنْ يبين الطالب اثر الحكام والعلماء في تغيير العقائد .
5أنْ يعدد الطالب اصناف الشرك القديم عند العرب .
6أنْ يلاحظ الطالب كيف كان العرب مستضعفين قبل البعثة .
اما كتاب العقيدة للصف الاول الشرعي فانه يعتمد على منهجي ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ، ويتم الاستشهاد بارائهما ، ولذلك فان رؤوس الطواغيت هم :
1 الحكام الحاكمون بالقوانين الوضعية .
2 رؤساء العشائر الذي يحكمون بالعادات والتقاليد .
3 اعضاء البرلمانات الكفرية .
4 اعضاء المجالس التشريعية .
5 القضاة في المحاكم الوضعية .
(وتعد الديمقراطية التي تشتمل على حكم الشعب والتداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات واستقلال القضاء واحترام حقوق الانسان وسيادة القانون ، كل ما سبق يعد كفرا مستقلا بذاته ) ، وكذا الامر في الوطنية التي اصبحت ( طاغوتا ويقدس ويعقد عليها الولاء والبراء ) . واشار الكتاب كذلك الى احزاب سياسية قومية وعروبية .

3

ان طرائق تحليل مناهج داعش يعتمد طريقتين بحسب ريمون المعلولي : (ماذا يقال؟ ) حيث تكون الكلمات والأفكار هي وحدة التحليل، والثانية (كيف يقال ذلك؟ ) بمعنى الكيفية التي يتم من خلالها تقديم المحتوى وإظهار الصورة ) .
وقد يطرح المنهج فكرة الدعوة الى الجهاد أو التبشير بالخلافة ، سواء أكان باللغة العربية أو الانكليزية ، ففي كتاب اللغة الانكليزية للصف السادس الابتدائي هناك نص عن احياء الخلافة ،ويتلخص مضمونه بمفاجأة ايجابية للمسلمين الحقيقين داخل الدولة الاسلامية الذين شعروا بفخر وسرور ، وحرص من يعيشون خارجها بالهجرة اليها . غير ان احياء الخلافة صدم غير المسلمين من يهود ونصارى ورافضة وبقية الكفار الذين شرعوا يحاربون دولة الخلافة .
ان النص يصنف الناس الى قسمين ، جلهم يقع في دائرة الكفر ، والمسلمون الحقيقيون هم الدواعش ،سواء أكانوا داخل منطقة نفوذ داعش أو في اماكن اخرى .
واذا كانت الافكار هنا تطرح عبر نص باللغة الانكليزية فقد تطرح الافكار في سياق مسائل رياضية ، وعندما نطالع بعض كتب الرياضيات فإنها تعتمد مسائل الحساب على جمع وطرح البنادق والمسدسات ، أو تطلب حل اسئلة تشتمل على معارك وجنود .
يشتمل الرياضيات للصف الخامس الابتدائي على مجموعة من المسائل الرياضية :
1 ـ في احدى المعارك بلغ عدد جنود الدولة الاسلامية 275220 جنديا ، في حين ان عدد الجنود الكافرين بلغ 356230 جنديا جبانا ، ايهما اكثر عددا ؟ وما الفرق بين عدد الجنود ؟
2 تتسع علبة لـ 25 طلقة مسدس ، كم قطعة في في 100 علبة ، في 1000 علبة ؟
3 يرابط احد جنود الخلافة الاسلامية 7 ساعات في اليوم ، كم ساعة يرابط في 285 يوما .
4 اذا كان عدد الوافدين الى دولة الخلافة من جميع الدول 230 يوميا ، كم يبلغ عددهم خلال 32 يوم .
5 في احدى الغزوات تم توزيع 87 مقاتلا على ثلاثة محاور بالتساوي ، ما عدد المقاتلين في كل محور ؟
وقد تطرح الافكار من خلال صورة أو لون ، حيث يطغى اللون الاسود على كثير من صفحات مناهج داعش ، كون السواد شعارهم ، ويضعون ايضا صورا للأسلحة في الفراغات بين الصفحات والوحدات .

4
يمكن وصف المناطق الوسطى والجنوبية في العراق بعد عام 2003 بانها مناطق شبه مستقرة ، بخلاف المناطق الغربية التي لم تعرف الاستقرار ، وشهدت اضطرابات عديدة كان اكثرها كارثية الاحتلال الداعشي ، وقد تمكنت قواتنا المسلحة والحشد الشعبي ـ بحمد الله ـ من مكافحة الاحتلال ، وستتوفق من استئصاله كاملا بإذن الله .
واذا كانت الادارة التقليدية للمنظومة التربوية قادرة على ادارة الاعمال الروتينية في الظروف الاعتيادية ، فإن المنظومة التربوية بها حاجة الى ادارة خاصة للازمات والمخاطر ، وبخاصة في المناطق التي احتلتها داعش ، من اجل مواجهة الظروف الصعبة وحساب الاحتمالات المختلفة واختيار الوسائل المناسبة لها .
واول ما تتحلى به ادارة الازمات والمخاطر :
1أنْ تتجاوز الفهم الخاطئ لطبيعة الازمات والمخاطر والذي يعود الى المعلومات الناقصة والتسرع في اتخاذ القرارات العشوائية والانفعالية والمتعجلة ، والحكم على المخاطر دون معرفة بنياتها الداخلية .
2أنْ تتجاوز القيادات الادارة التقليدية التي لم تؤهل لأداء ادوار متخصصة ، والنأي تماما عن المحاصصة الطائفية والحزبية .
3 تجاوز قيادات الاستشارة وهيآت الرأي من اصحاب الوظائف الادارية واستبدالهم بكوادر كفؤة من حملة الشهادات العليا ، وبخاصة اولئك المتمرسين بالبحوث العلمية والدراسات التربوية.
وبناء على ما سبق فان النقاط الآتية تمثل خطوة على الطريق الصحيح :
1خطة علمية مدروسة لإدارة الازمات والمخاطر للمناطق المحررة لمدة خمس سنوات ، تمثل السنوات الثلات الاولى لتخفيف الاثار التي تركها الاحتلال على التلاميذ ، وتمثل السنتان الاخريان الانتهاء كليا من بقايا هذه الاثار .
2 قياس وتقويم مرحلي كل ثلاثة شهور ، يتم فيها مراجعة وتعديل مسار الخطط بحيث تتواءم مع المعطيات المعالجة .
3 مراجعة الخطة على وفق التغذية الراجعة .
وان تتضمن الخطة بعدين اخرين :
أ تنويع مصادر التأثير في التلاميذ ، اذ لا يكفي أنْ يكون التأثير مدرسيا ، اذ ينبغي ان تسهم بذلك مؤسسات مصاحبة ، كالتعليم العالي والثقافة والشؤون الاجتماعية ، اضافة الى خبراء في علم النفس . هذا فضلا عن الاستعانة بتوجيهات المرجعيات الدينية والاوقاف الشيعية والسنية والاديان الاخرى .
ب تجفيف مصادر التأثير الداعشي بوضع بدائل مدروسة .
وتتأسس الخطة على عمليتين متداخلتين :
1 الازاحة ، بمعنى ازالة ما تركته داعش من مؤثرات
2 الاحلال ، اي احلال البديل .
وهذا كله يقتضي :
1 اعداد مناهج خاصة تعالج ما تركه داعش من مؤثرات سلبية في وجدان التلاميذ وسلوكياتهم .
2 اعادة تأهيل المعلمين والمدرسين والمرشدين التربويين والمشرفين التربويين ، وتدريبهم على قيادة ادارة الازمات والمخاطر .
3 تمكين التلاميذ من ممارسة نشاطات متنوعة في داخل المدرسة وخارجها ، وفي اثناء العطل الربيعية والصيفية ، وتكون الالعاب الرياضية والنشاطات الجماعية الاخرى ذات الابعاد الانسانية بديلا عن العاب العنف.