تثير الحداثة معضلات ماهيتها وتاريخيتها على السواء ، فهي ليست مصطلحا خاصا بالنقد والادب ، ولكنها تشير الى صيغ عديدة دالة على الحضارة والتقدم ، فهي ابتداء ،تدل على التغاير مع الأنماط السابقة ، وتتمرد على خصائصها وسماتها ،وبتعبير اخر انَّ الحداثة كما يرى ( جون بودريان ) ليست ” مفهوما سوسيولوجيا أو مفهوما سياسيا ، أو مفهوما تاريخيا يحصر المعنى وانما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد ، أي انها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية” واذا كانت الحداثة اليوم تدل في اول ما تدل عليه هو ارتباطها بالحضارة الغربية أو انحدارها عنها ،وبما تشتمل عليه من خصائص وسمات هي نتاج سياقات تاريخية واجتماعية معينة ، فان الحديث عن حداثة عربية هي قرين صورة مطابقة لحداثة غربية للتواصل لكائن بين الحداثتين، والحق انه ليس تواصلا بمعنى فاعلية الاخذ والعطاء ،وانما بمعني آخر فاعلية طرف ــ الغرب ـــ وتلقي أو بتعبير ادق سلبية طرف آخر ـــ الحداثة العربية .
ان الحداثة المعاصرة مادية وذهنية نشأت في سياقات تاريخية واجتماعية غربية ، ثم انتقلت الى مجتمعات أخرى بطرائق مختلفة ، ومنها الوطن العربي ، وكانت دهشة الانبهار إزاء مظاهر الحداثة المادية كبيرة ،وتجاور ذلك مع ايمان اخر بحداثة الاخر الذهنية ، وتشبث بعض الحداثيين بشمولية الحداثة ( ماديا وذهنيا ) وطفق يبشر بمفاهيمها وتصوراتها ، ويدافع عن ابداعاتها وانجازاتها ، دون ان يشعر بالفوارق الكبيرة بين طبيعة السياقات الاجتماعية والتاريخية المختلفة للحداثة في موطنها وفي واقعنا وتاريخنا ، ويعارض هؤلاء نمطا اخر يأخذ من المظاهر المادية للحداثة ، لسبب وغيره ، ولا يرى في ذلك من تعارض اطلاقا مع مقولاته السلفية التراثية ، ولكنه يرفض مقولات الحداثة وتصوراتها ومفاهيمها ، ويلتقي الدارس بنمط تلفيقي يحاول المجاورة بين ما يطلق عليه الاصالة والمعاصرة ، أو التراث والحداثة ، ومن ثم يجاور بين المتعارضات والمتناقضات ، تماما كما يفعل بعض الدارسين حي ينظر الى التراث بوصفه كتلة مصمتة فيأخذ من العقلي والنقلي على السواء .
ان الحداثة في التراث لم تنشأ معلقة في فراغ ، وانما كانت جزء من تطور حاصل في الواقع ، فهي تتأسس ” على الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة للتغيير في هذا النظام ” ويحدد ادونيس للحداثة تيارين سياسي ـــ فكري ، وفني ، ويتمثل الأول في الحركات المناهضة للسلطة ـــ الخوارج وثورة الزنج والقرامطة ـــ وبالتصورات الاعتزالية والعقلانية الالحادية والتصوف ، وتهدف هذه جميعا الى ” الوحدة بين الحاكم والمحكوم في نظام يساوي بين الناس اقتصاديا وسياسيا ، ولا يفرق بين الواحد والآخر على أساس من جنس ولون ، اما التيار الفني فلقد ابطل القديم وتحول فيه الابداع على خاصية إنسانية بحيث اصبح الانسان ” يمارس هو نفسه عملية خلق العالم” .
ومن الجدير بالملاحظة انَّ هذين التيارين لهما وجود حقيقي في الواقع الاجتماعي ، اذ يمثل ملامح حقيقية لمعارضة قوية في زمن سلطة قمعية ، لها ثقافتها المضادة المعززة بقوة السيف ، ولا يخفى وجود الخوارج والشيعة والقرامطة وغيرهم ، أي انَّ هناك شرائح اجتماعية واسعة في المجتمع العربي تؤدي دورها الفاعل في الحياة وفي الخروج على السلطة وثقافتها ، وقد استخدمت القوة : ثورة أو عصيانا، أو الرفض السلبي ، بمعنى انَّ الفكر الحداثي له قاعدة اجتماعية شعبية واسعة تؤمن به وتدافع عنه لحد استخدام القوة والعنف .
وحين نتأمل الحداثة العربية المعاصرة فان هناك تساؤلات ملحة تفرض نفسها : هل الحداثة المعاصرة حركة تطورت تطورا طبيعيا في سياقات تاريخية واجتماعية معينة ؟ ام انها حركة صفوة من المثقفين ؟ أي هل تعبر الحداثة عن واقع اجتماعي فعلا ، وان لم تعبر فهل هي تؤثر فيه ؟ واذا كانت الحداثة في التراث تعبر عن طموحات تيارات اجتماعية كبيرة ، فان الحداثة المعاصرة لا تتجاوز الآلاف ، ويرتبط قسم كبير من أنصارها ودعاتها بأكثر الأنظمة القمعية ، يخدمون تطلعاتها السياسية ويدافعون عن رموز اشخاصها أ ومما يؤيد انَّ الحداثة حداثة مثقفين مقولة محمد عابد الجابري ” هناك في واقعنا المريض قطاع كبير من الذين يملكون السلطة العلمية أو الفكرية على الجماهير ، أو سمها سلطة الجاه أو المشيخة اذا شئت ، ومن ثم فهناك قطاعات واسعة من الجماهير العربية تابعة لهؤلاء ، وليس نحن المثقفين أو الانتجلنسيا بالمفهوم الغربي فلا سلطان لنا عليهم ، وينبغي علينا نحن المثقفين ان نعترف بأننا فئة قليلة جدا ، وغير مؤثرة التأثير الكافي في واقعنا الثقافي ، انَّ الكتاب الذي يصدر بيننا ويؤلفه واحد منا نتداوله فيم بيننا نحن فقط ، ولا يوزع منه الا حوالي ستة الاف نسخة فقط ، فما القيمة التي تمثلها ستة الاف نسخة في شعب يزيد على مائة وخمسون مليونا ”
ومما يؤكد ذلك انَّ ادونيس هو الاخر يؤكد قضية بالغة الأهمية في وجود حداثة في الشعر ، ولا وجود لحداثة في العلم وتغيير المجتمع ، انَّ الحداثة العربية المعاصرة حداثة تكاد تكون غريبة تماما ، وهي جزء مما نتلقاه ونتداوله ، انَّ ادونيس وهو من ابرز الشخصيات الحداثية شعرا وفكرا يؤكد انَّ الغرب اليوم يقيم بعمق اعماقنا في جميع ما نتداوله اليوم فكريا وحياتيا ، يجيئنا من هذا الغرب ، اما فيما يتصل بالناحية الحياتية فليس عندنا ما تحسم به حياتنا الا ما نأخذه من الغرب ، وكما اننا نعيش بوسائل ابتكرها الغرب ، فإننا نفكر بلغة الغرب نظريات ومفهومات ، ومناهج تفكيري ، ومذاهب أدبية … الخ ابتكرها هي أيضا ، الغرب ، الرأسمالية ، الاشتراكية ، الديمقراطية ، الجمهورية ، الليبرالية ، الحرية ، الماركسية ، الشيوعية ، القومية … الخ ـــ المنطق ، الديالكتيك ، العقلانية … الخ ـــ الواقعية ، الرومانطيقية ، الرمزية ، السريالية … الخ هذا من دون ان ندخل في ميدان العلوم وبخاصة في العلوم البحتة .
وقبل الشروع في التعرض للحداثة اود الإشارة الى تمييز دقيق بين التجديد والحداثة ، أشارت اليه خالدة سعيد ، اذ ترى انَّ ” الحداثة اكثر من التجديد ، واذا كان التجديد مظهرا من مظاهر الحداثة ، لان التجديد هو انتاج المختلف المتغير الذي لا يخضع للمعايير السابقة ، أولا يخضع لها تماما ، بل يسهم في توليد معايير جديدة ، الجديد نجده في عصور مختلفة ، لكنه لا يشير الى الحداثة دائما، ولا يكون الجديد حديثا بالمعنى الذي استقر للحداثة الا اذا كان يطرح القضايا الأساسية للحداثة ، ويتمحور حول المفصل الصراع الفكري للحداثة .
ومن اجل فهم افضل لطبيعة الحداثة العربية تحدد خالدة سعيد أمورا منها ما يتصل بارتباط الحداثة ، بالانزياح المتسارع في المعارف وانماط الإنتاج والعلاقات على نحو يستتبع صراعا مع المعتقدات .. ومع القيم التي تفرزها أنماط الإنتاج والعلاقات السائدة . وبقدر ما يشير هذا الى العلاقة الحميمة بين الحداثة والتغيير والتطور ، يشير على هذا التغيير بأنماط انتاجها وعلاقاتها ، بحيث يؤكد العلاقة الجدلية بين المعرفة والبنية التحتية في ضوء تجلياتها الماركسية المعروفة ، ومن ثم تحدد الناقدة الحداثة بوصفها ثورة فكرية وليست مجرد مسألة تتصل بالوزن والقافية ، أو بقصيدة النثر ، أو نظام السرد ، أو البطل … لتؤكد أخيرا انَّ الحداثة وضعية فكرية لا تنفصل عن ظهور الأفكار والنزوعات التاريخية التطويرية ، وتقدم المناهج التحليلية التجريبية ، وهي تتبلور في اتجاه تعريف جديد للإنسان عبر تحديد جديد لعلاقته بالكون ، انها إعادة نظر شاملة في منظومة المعلومات والنظام المعرفي ، أو ما يكون صورة العالم في وعي الانسان ، ومن ثم يمكن ان يقال انها إعادة نظر في المراجع والأدوات والقيم والمعايير .
ان الحداثة لا توجد فجأة ، بل هي نتيجة تراكم معرفي ، تنطلق من مرحلة لأخرى ، اذ ترى خالدة سعيد انَّ الحداثة بوصفها حركة فكرية شاملة انطلقت مع الرواد مثل جبران خليل جبران وطه حسين ، فقد مثّل فكر الرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية ، كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة ، واقام مرجعين بديلين : العقل والواقع التاريخي ، وكلاهما انساني ومن ثم تطوري ، فالحقيقة عند رائد كجبران وطه حسين لا تلتمس بالنقل ، بل تلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران ، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين.
ومن المفارقات التي ينبغي تأكيدها انَّ محمد مصطفى بدوي يؤكد امرين رأيت ضرورة التوقف عندهما : أولهما : انه ” ليس هناك اجماع مطلق على تحديد قاطع للحداثة ، ومع ذلك هناك شبه اجماع على ما يمكن وصفه بالفن الحديث ” وثانيهما: انَّ الكلام عن الحداثة في الادب الأوربي انما هو لاحق أو مصاحب لهذه الظاهرة ، وليس سابقا لها على الاطلاق ، كما هي الحال لدى كتابنا وشعرائنا .
ان ما فعله نقادنا هو نقل الدلالات والمفاهيم التي تحدد مصطلح الحداثة ، على الرغم من عدم تحددها لدى الغربيين ، ومن ثم عمدوا الى تحديد معايير الحداثة ، ومحاولة السير في ركابها ، وهذا يعني انَّ هناك تفاوتا بين من يصف ويحلل ويحدد طبيعة الحداثة ، كما فعل الاوربيون .وبين من يحدد المعايير ثم يدعو أو يبدع نصا حداثيا ، لا ريب انَّ هناك فرقا .
ان الحداثة في الغرب ـــ كما يحدد براديبري ومكفارلين ـــ كانت تعبيرا عن انهيار العقل والحضارة الغربية ، ولما أصاب المدينة اثناء الحرب العالمية الأولى ، وهي فن الرأسمالية والتصنيع المتزايد في السرعة وفن اللامعقول وادب التكنولوجيا ، ويتساءل محمد مصطفى بدوي بقوله : فأين نحن العرب من هذه الأشياء ؟ متى كانت الواقعية والعقلانية والتصنيع الشامل والتكنولوجيا الحديثة هي السمات الغالبة في مجتمعاتنا في يوم من الأيام .
ترى هل بدأت الحداثة في الاربعينات وتطورت في الخمسينات ، وما تلاها ، سواء لدى رواد الشعر الحر في العراق ، أو حركة شعر في لبنان ، وان كانت هذه هي الحداثة تاريخيا ، فلا ريب انَّ هناك فجوة بين الواقع العربي والحداثة العربية ، بمعنى انَّ الحداثة ليست تعبيرا عن واقع معاش ، فهي سابقة للواقع ومتقدمة عليه عند من يحسنون الظن ، أو انها صورة للحداثة الغربية ونسخ لها عند من يسيئون الظن ، ويعم التصور الأخير ما يذهب اليه محمد عابد الجابري في اثناء تعرضه للخطاب العربي الحديث ، من انَّ المفاهيم الموظفة فيه مستقاة كلها اما من الماضي العربي الإسلامي واما من الحاضر الأوربي ،حيث تدل تلك المفاهيم في كلتا الحالتين على واقع هو ليس الواقع العربي الراهن ، بل هو واقع معتم غير محدد ، ومستنسخ ،اما من صورة الماضي أو من صورة الغرب ـــ المستقبل ، المأمول .
اذن هناك طريقان للتحدث عن الحداثة ، أولهما : معياري يحدد للحداثة طبيعتها ووظيفتا وملامحها ، من منظور نظري بحت ، ويستقى مكوناتها من التراث نادرا، ومن الاخر غالبا ، بمعنى ان أصحاب النظرية المعيارية لا يأخذون المصطلح ” الحداثة ” من الاخر ، بل يتبون دلالاته ، على الرغم من اننا لم ننتج المصطلح ولم نحدد ماهيته ، وكأن الحداثة هنا مفهوم مطلق تصدق معياريته على كل حداثة عربية أو غيرها ، انية أو قديمة أو آتية ، وهي على كل حال ترجع الى مركزية اوربية ، أي مركزية مفهوم الحداثة وهو مفهوم نتاج واقع اجتماعي وفكري وسياسي وايديولوجي محدد ، ومن الجدير بالذكر انَّ مفهوم الحداثة عند الاخر ليس وليد تصورات معيارية مسبقة ، كما نفعل نحن ، وانما هو وليد عملية جدلية بين الواقع والحداثة ، ومن ثم فان مفهوم الحداثة يتجدد على الرغم من تعددية دلالاته في ضوء استقراء منتجات مادية وذهنية على السواء .
وثانيهما : وصفي ، وهو اقل ظهورا ، أي انه يحدد للحداثة مفهوما في ضوء استقراء النصوص الحداثية، ومحاولة الكشف عن خصائصها وسماتها، غير انَّ معضلا يعترض هذه المحاولة يكمن في تحديد النصوص الحداثية ، وكأن التحديد الوصفي لا بد له من أسس معيارية ، واذا كانت المشكلة محسومة لدى أصحاب التيار الأول لانهم يستقون المفاهيم والتصورات بوصفها موجودات ثابتة أو متغيرة من حضارة أخرى ، فان أصحاب التيار الثاني يعانون من مشكلتين : اولاهما : لها طابع معياري يسهم في تحديد طبيعة النصوص الأدبية الحداثية ، ومن ثم وصفها والكشف عن خصائصها ، فهم يقومون بعملية مزدوجة تتردد بين المعيارية والوصفية .
وكلا التيارين يصدر في تحديده لمفهوم الحداثة في ضوء موقفه من اللاحداثة وبمقدار تحدد الأخيرة ــ اللاحداثة ـــ يمكن فهم الحداثة الولوج الى عوالمهما المختلفة ـــ وان دراستهما غير مستقلة عن سياقات عديدة تراثية أولا ، واجتماعية وتاريخية ثانيا ، انَّ تأكيدي على التراث له ما يبرره ، لأننا نعيش تراثنا بكيفيات متعددة تتفاوت في طبيعتها ووظيفتها ، أي من التلقي السلبي للتراث الى رفضه المطلق ، أو نظرة تلفيقية بين النظرتين السلبية والرافضة ، انَّ وعي التراث يسهم في تحديد الجانب الأكبر من هويتنا المعاصرة ، ويحدد أيضا موقفنا من الاخر.
ويبدو انَّ مصطلحي الحداثة واللاحداثة يختلطان بمصطلحات ومفاهيم أخرى ، اذ يعلي دارس من اللاحداثة ويعدها اصالة ، لا بد من التشبث بها ، لان وجودنا الحضاري الاني مقترن بها ، وان هويتنا الثقافية لا وجود لها الا بها ، في حين تبدو اللاحداثة عند اخرين امرا مرفوضا وممجوجا على صعد مختلفة ، أيديولوجية وفكرية واجتماعية وابداعية ، انَّ اللاحداثة عند النمط الأول تتميز بثباتها واستقرارها وديمومتها واطلاقها في كل زمان ومكان ، بينما هي لدى النمط الاخر متخلفة ورجعية ، انها تعبر عن واقع اجتماعي مندثر، وان اعادتها الى الحياة أو محاولة فرضها كمن يحاول ايقاظ ميت ، وحين يخفق في ذلك يحاول حمل هيكله العظمي معبرا عن حضوره أو تجدده .