قد لا أكون مبالغا اذا قلت ان تاريخ البشرية منذ بدايتها هو تاريخ العنف ، اذ يمكن ان نعد عصيان ادم لربه اول محاولة عنف ضد إرادة الله، فالعصيان لون من الوان التمرد ، والتمرد شكل من اشكال العنف ، وليس الامر متوقفا عند ذلك بل تحول العنف في الجيل الثاني الى ارتكاب اول جريمة قتل في تاريخ البشرين، وعملة القتل هذه يرتبط فيها القاتل بالمقتول علاقة قرابة ، ولقد قدمت التفسيرات الدينية دلالتي الخير والشر بوصفهما فارقا في نوايا الاخوين ، الامر الذي تقبل الله القربان الذي قدمه هابيل ولم يتقبل قربان قابيل ، وهذا يعني ان قابيل قد خرج عن أوامر الله وارادة الاب ، وليس من باب القدرية ان تكون البشرية كلها من أبناء القاتل ، وليس من أبناء الطيب والبريء ، ولا يخفي ان هذا قد بدل على انتقال البشرية من حالة الرعي الى الزراعة بوصفها تمثل نقلة نوعية في التطور الحضاري .
ويقودنا هذا الى ضرورة فهم طبيعة العنف لدى الانسان هل هو مجرد رغبة أو غريزة عدوانية ، ام ان العنف والتمرد سمات يتعلمها الانسان ، ومن ثم فإنها ليست فطرية وليست مكتسبة ، وقد تدل عملية قتل قابيل لأخيه ان العنف صفة قارة في النفس الإنسانية ، تعلق بنزعات ذاتية ، وقد يخضع العنف لدوافع ذاتية فان ( هيثكلف ) في رواية مرتفعات ويذرنع مستعد لقتل البشرية كي يمتلك حبيبته ، كما يرى ذلك البير كامو ، بغض النظر عن معقولية القتل أو لا معقوليته . ويضيف كامو انه يرتكب الجريمة وعند هذا يقف معتقده ،ويفترض هذا العمل قوة الحب والمزاج الملائم وبما ان قوة الحب نادرة الوجود ، لذلك يبقى القتل عملا استثنائيا ، ويحتفظ اذن بطابعة التحطيمي . ولكن اذا فهمنا ان هذه الحكاية ـــ قابيل وهابيل ـــ مجرد حكاية رمزية يترجح المعني الثاني ، أي ان العنف عمل يتعلمه الانسان ، بسبب الاستحواذ على السطلة أو الحصول على مكاسب تفرضها الضغوط التي تعصف بالإنسان ، غير ان هناك ظاهرة خطيرة اخذت تتجلي في الأزمنة المعاصرة ، وهي العنف من اجل العنف .
وتعرف الموسوعة الفلسفية العنف بانه فعل يعمد فاعله الى اغتصاب شخصية الاخر ، وذلك باقتحامها الى عمق كيانها الوجودي ويرغمها بأفعالها وفي مصيرها منتزعا حقوقها أو ممتلكاتها أو الاثنين معا .
وليس الامر مقتصرا على الافراد والمنظمات فان بعض الدول الكبرى وبخصة الولايات المتحدة وإسرائيل تتنمر على شعوب وحكومات فتعمد الى استخدام العنف بأقصى درجاته كالغزو والاحتلال ، أو تغيير الأنظمة السياسية من وراء الكواليس ، والى استخدام وسائل متعددة من العنف كفرض العقوبات بأنواعها المختلفة .
ويمايز جورج سوريل بين القوة والعنف ، فالقوة هي التي تفرض تنظيم وضع اجتماعي تكون فيه الأقلية هي الحاكمة ، اما العنف فهو الذي يرمي الى تهديم النظام ، وهو بهذا يعقد مقارنة بين ما تقوم به البرجوازية في استخدام القوة لتثبيت سلطتها ، وما تقوم به البروليتاريا في استخدام العنف لتقويض النظام البرجوازي بأصله الذي ربما يقصد العنف الثوري .
وليس غرييا أو من قبيل المصادفة ان تضفي حنة ارندت على العنف أهمية كبيرة في دوره العظيم في حياة البشر, اذ يقترن لديها العنف والسلطة برباط يكاد يكون مقدسا ، حين تقتبس مقولة ماوتسونغ في ان السلطة تنبثق من فوهة البندقية ،وكأن هذا يعارض مع مقولات كارل ماركس الذي يرى ان العنف لا يمثل سوى دور ثانوي في احداث التغيرات لانتقال المجتمع من القديم الى الحديث ، لان التناقضات الموجودة داخل المجتمع هي التي تحدث ذلك .وهذا يعني ان القوانين قد لا تعدو ان تكون مجرد كلمات لا قيمة لها ان لم تعضدها البندقية .
وتخضع مشروعية العنف بحسب الجهة التي يصدر عنها العنف ، سواء اكانت في السلطة ام في المعارضة ، اذا تضفى الشرعية على العنف حين يكون العنف صادرا عن السطلة أصحاب عنف ضار ،ان الأفعال الصادرة عن السلطة السياسية وأجهزتها والتي تتصف بطابع القوة والشدة والقمع والاضطهاد والاعتقالات الكيفية هي أفعال غير عنيفة لأنها قانونية .
ويظهر في هذا السياق مصطلحان هما العنف الرجعي والعنف الثوري ، وكان بريق العنف الثوري ساطعا بحيث يبرر للقائمين فيه شرعية تنفيذه ÷وبخاصة ضد كل ما يطلق عليه العنف الرجعي ، ومن الجدير بالذكر ان ما تقوم به الطبقة العاملة البروليتاريا هو عنف ثوري وما عداه فهو يعد عنفا رجعيا.
وليس من الغريب حين يستلم السلطة أصحاب الشرعية الثورية فانهم يمارسون الأدوار نفسها بالبطش بخصومهم وذلك جلي في كثير من الممارسات العالمية والعربية .
ومن الجدير بالذكر اني حضرت محاضرة في كلية الآداب جامعة بغداد أوائل السبعينات ، وكان المحاضر أستاذا جامعيا مرموقا ، تحدث فيها عن العنف الثوري وآلياته واساليبه ، ثم تساءل : ما موقفك حين تكلف بتصفية امبراطور جائر ، ولكنك في اللحظة الأخيرة قبل التنفيذ تشاهد بريق عيني طفل داخل العربة التي تقل الامبراطور ، فقاطعه من وسط القاعة ، مهرج قائلا : اذا كنت ثوريا ستنفذ المهمة وتقتل الامبراطور ومن معه .