ان مقولة برلماني عراقي مفادها ” على المثقف عدم التعالي على السياسي ” اثارت من جديد الصراع الضدي بين السياسي والمثقف وعضدته ، وتضمنت في الوقت نفسه اعترافا بأفضلية احد الطرفين ، كون احدهما يمتلك القدرة على انتاج المعرفة وامكانية تطويرها ، بمعنى : وعي الذات والواقع ، وفهــم الاخر , وتغيير العـــالـم ، في حين يفتقر الثاني الى ذلك ، كما تستبطن المقولة – أيضا – تلويحا بالتهديد : تبدأ مراحله الاولى باللـوم والعتاب ، كون المثقف يصدر عن نرجــسية خاصة ، ثم تتعـالى حدة الصراع الى التهميــــش ، ثــم النفـــي ، واخيــرا التصفية .
ويختلف منزعا المثقف والسياسي من حيث طبيعة عمليهما ووظائف تفكيرهما ، بين من يمارس الفعل في الواقـع ( السياسي ) وبين من يتعالى عليه ( المثقف ) ، وهذا يعني ان السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن ، في حين يتجاوز المثقف ذلك الى الآتي وما ينبغي أن يكون ، وتتحكم في سلوكية السياسي نزعة برغماتية تجنح في كثير من الاحيان نحو ميكانيكية تبريرية ، في حين يميل المثقف الى نزعة ترقى الى المثالية التي تهدف الى صياغة الواقع على وفق معطيات معرفية جديدة ، بمعنى الانتقال من الثابت الذي يصر السيــاسي على وجوده ، الى المتغير الذي ينشـــده المثقف ، لأن الثابت ( المعروف ) يبقي السياسي الحاكم في سلطتـــه أما المتغيــر ( المجهول ) فإنه يحدث خلخلة في الواقع وتغيرا يخشاه السياسي ويفر منه .
ويبلغ التعارض الضدي اقصى مدياته بين المثقف والسياسي في أحد أبرز المتون الثقافية ( الف ليلة وليلة ) ، إذ يتجلى بوضوح بين شهرزاد المثقفة العارفة المطلعة على الكتب والمصنفات والتي حفظت الأخبار ، واطلعت على الفنون ، فضلا عن امتلاكها القدرة على التأثير في القص والأداء ، ويقابلها السياسي / الحاكم شهريار الذي جعل الشك وسوء الظن وتعميم الأحكام غايته ووسيلته على السواء ، واستخدم البطش ببشاعة فائقة ، وليس من قبيل المصادفة أن يكون التعارض قائما بين السياسي والمثقف بل أنه اشتمل على تعارض ضدي آخر يقوم على أساس الجنس بين الرجل والمرأة , وكأنه يشير ضمنا الى تعارض ثقافي ذكوري ونسوي .
وإذا كانت شهرزاد قد تمكنت من ترويض الحاكم وشفته من عقده المرضية النفسية المركبة ، وتمكنت من إعادته الى حالته الطبيعية ، فأن عبداللّه بن المقفع قدم حياته ثمنا لنصائحه الرمزية للحاكم في كتابه ( كليــلة ودمنة ) ، ويتبدى التعارض بين الحاكم والفيلسوف ( بيدبا ودبشليــم ) إذ يمثل الأول كما يقول أستاذنا الدكتور جابر عصفور تمثيلا رمزيا لنموذج الحكيم العاقل ويمثل الثاني الحاكم الباطش ، وتبدو كليلة ودمنة أقنعة للمرامي على مستوى التعارض الرمزي بين السيف والقلم ، في تلك العلاقة المتوترة التي دفعت عبداللّه بن المقفع الى القول صراحة ( إن الملوك أحوج الى الكتاب من الكتاب الى الملوك ) وكما قال إبن المقفع : ( إن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم , وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال) !!!