لايمكن لمفكر أو فيلسوف ان ينجز مشروعه الفكري والفلسفي دون منهج خاص يصدر عنه ، اذ به تتحدد رؤيته واليات تحليله ، واذا كان المنهج في اللغة يعني الطريق الواضح المحدد فأنه في الاصطلاح يعني مجموعة القواعد والقوانين العامة التي تسيطر على العقل وتحدد عملياته ، وتسهم في تحديد الاليات التي يسلكها الباحث في بحثه ، وترسم له الخطوات العقلية التي يتبعها من أجل الوصول الى الحقيقة في أي ميدان من ميادين المعرفة .

وهذا يعني ان المنهج انما هو ” فلسفة العلم ” التي تسهم في تحليل العلوم دون ان تكون جزءاً محدداً منها ، فهو يختلف عن المنطق الصوري الشكلي الذي يعنى بدراسة صور واشكال التفكير ، ولا يعنى بموضوع هذا التفكير ، بمعنى انه لا يضيف الى المعرفة جديداً ، لان النتيجة المعرفية موجودة في احدى المقدمتين الصغرى والكبرى .

ولقد هيمن هذا التصور لقرون طويلة ، تابع فيه المفكرون شرح الكتب – الدينية منها خاصة – بوصفها المبتدأ الذي يتنزلون عنها الى النتائج المتولدة عنها ، واعتقدوا ان التفكير لايتجاوز مطلقاً المنجز الاستنباطي الذي يقف على عتبات القياس الارسطي بغض النظر عن مطابقته للواقع وللعلوم الطبيعية التي اخذت تغير من ثوابت هذا التفكير .

ان بعض التصورات المعاصرة تجعل من فهمها للأشياء مجرد مقدمات اولية ، يتم من خلالها استخراج النتائج ، وانها تمثل منطقة ابتداء ، وتحول الفهم الخاص الى مقدسات ثانية لا مجال لمناقشتها أو التحاور معها .

وعلى الرغم من ادراكي العميق ان المنطق الصوري والمنهج لا يمكنهما ان يقودا تماماً الى موضوعية مطلقة ، لان الانحياز امر طبيعي في الانسان ، غير ان هناك نمطين من الانحياز ، انحياز انفعالي عاطفي يجعل المعرفة المسبقة متحكمة بالتفكير وبنتائجه ، الامر الذي يسقط الافكار المسبقة على مجمل العملية التفكيرية ، وهناك انحياز يتجاوز الانفعالية الى تحليل وتقويم ، بمعنى انه يتكئ على قواعد وثوابت يصدر عنها ، تجعل المعرفة كامنة في ما يتم دراسته ، ومن ثم يتم الكشف عنها ، لا على اساس مقولات مسبقة ، ولذلك فان بحثاً – على سبيل المثال – يعلي من العناية بشان التراث مهما كانت موضوعيته لابد ان يكون منحازاً على نحو من الانحاء الى المنظومات المعرفية والفكرية التي يشتمل عليها التراث ، صحيح قد لا يلجا الى احكام مسبقة تصادر الدرس والتحليل ، ولكنه دون شك يسير في رحابها ، ويتنفس من مناخاتها ، واود في هذا السياق التأكيد على ما يأتي :

اولاً :- ان دراسة اي ظاهرة لا يمكن ان يتم باجتزائها عن منظومتها الكلية ، وكأنها كتلة معلقة في فراغ ، لان اية ظاهرة انما هي جزء من بناء أشمل ومنظومة كلية ، وهذا يؤكد ثلاثة اركان:

  1. العناصر المكونة للظاهرة .

  2. مواقع هذه العناصر .

  3. العلاقات الرابطة بينها .

ان اي تغيير في العنصر اولاً ، وفي موقعه ثانياً ، وفي علاقته مع العناصر الاخرى ثالثاً يؤثر بشكل فاعل ليس في طبيعة الظاهرة فحسب وانما بتحديد ماهيتها وآليات تحليلها .

ثانياً :- لا يمكن في الوقت نفسه اجتزاء الظاهرة عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية ، اذ لها ظروفها الموضوعية الخاصة ، وما كان لها ان توجد الا بهذا المناخ .

ثالثاً :- ضرورة تجاوز انتقائية الحوادث والافكار والتصورات ، بمعنى ان الدارس هنا لا يحيط بالظاهرة ، وانما ينتقي ما يتوافق مع تصوراته ، ويطرح جانباً ما يتعارض معها .