1

لا يخفى ما للحياة الاجتماعية من تأثير فاعل في الانسان ، من حيث وجوده وابداع فنونه ، غير ان هناك عوامل أخرى يمكن ان تساعدنا في فهم الانسان ووعيه وتشكيل فنونه ، ” فالجو يؤثر في طباع الناس ونفسياتهم ، في نشاطهم وخمولهم ، كما انه يؤثر في تكوين اجسامهم ولون بشرتهم ، وخصوبة التربة ووفرة المياه تساعد على توجيه فعالياتهم نحو الزراعة مبدئيا ، كما ان الجدب والجفاف يحفزهم نحو اتجاه اخر رعوي أو تجاري ” بمعنى ان البيئة الصحراوية ومناخها القاسي يضفيان سمات محددة في الشخصية الإنسانية ، اذ يعيش الانسان بحالة من التفرد والتوحش أحيانا ، ويزداد شكه وتوتره من كل طارئ وغريب ، ويتميز بحياته التي تتحدد بجماعات صغيره متنقله ، اذ لا يعرف سكان الصحارى الاستقرار لانهم في حالة تنقل مستمر ، ولذا فان أدوات المعيش تقتصر على ما ينبغي توافره من ضرورات العيش التي يسهل نقلها والاستفادة منها .
ولعل في مقولة الرسول ( ص ) ” من بدا جفا ” خير دليل على اثر الصحراء والفكر المتولد منها في تحديد طبيعة الحياة الاجتماعية التي يعيشها الانسان في الصحراء في الصحراء ، لدرجة يمكننا التحدث عن فكر صحراوي ، وان ابرز ما يتميز به طباع هؤلاء الناس التوحش والجفاء، الامر الذي يطبع حياتهم بخصوصيات تلازمها ما داموا ملازمين حالة التصحر .
واذا كانت حياة اهل البادية لا تعرف الاستقرار وتتسم طباعهم بالتوحش والجفاء فانهم لا يمتلكون أدوات الرقي والحضارة ولذلك تندر لديهم الكتابة التي تعد ابرز وسيلة لبدء حضارة ، سواء أكان في خلق الفنون ام تطويرها ، ويقتصر أداء الانسان الصحراوي على فنون القول ذي الإيقاع الموسيقي كالشعر والسجع والخطابة التي تؤدي أدوارها في المناسبات الخاصة .
ان سكان المدن وبخاصة الساكنين في بيئات باردة أو ثلجية قاسية انما يمثلون طورا حضاريا اخر يختلف عن الطور الحضاري الصحراوي ، إذ يقضي سكان المدن ليلا شتويا طويلا تتخلله حكايات واساطير ، وكلما كان الجو قارسا ورياحه شديدة أو عنيفة ، تتولد في مخيلة أبناء هذه المدن حكايات وخرافات تقود الى اعتقاد بآلهة متعددة ،ولكل واحد فيها قصة واسطورة وخرافة.
وتؤثر البيئة في نشأة الفنون ففي بلاد الاغريق وبخاصة في مدنهم المستقرة ، حيث اتخذوا أماكن للقاء والمناقشة والحوار ، ومن ثم تولد المسرح بسبب حركة الجموع المترعة بالخرافات والاساطير والابطال والالهة ، بخلاف انسان الصحراء الذي لا يعيش هذه الأجواء ، الامر الذي قاد الى فنون قوليه وليس نتاجات درامية ، فيكثر في ذلك في الصحراء بالشعر ، بأوزان وتوقيعات مستمدة من حركة الإبل أو قرع الطبول للحروب ونحو ذلك ، وتولدت في المدن بخاصة في الإغريق فنون تستمد افكارها وبنيتها من الخلفية الأسطورية والخرافية ، ومبنية على الحكايات التي يقضيها الانسان في ليل طويل لشهور عديدة .
وعلى المستوى الاجتماعي يحاول الفرد الاحتماء بالجماعة ، ولذلك تولدت العصبية القبلية في مناخات البادية ، وكلما ازدادت حدة العصبية كثرت نزوعات الرفض لمن هو خارج هذه العصبية للقبيلة ، ولذك كان الصراع قائما داخل الصحراء بين قبيلة وأخرى ، وتتميز بقدر كبير من تباين العلاقات الحادة وتناقضها، وفي التراث الصحراوي العربي حين يلتقيك البدوي في الصحراء فان اول ما يفكر فيه هو قتلك وسلب ما لديك ، ولكنك حين تفد اليه بخيمته يكرمك غاية الاكرام ويذبح من اجلك نياقه وجماله وشياهه .
هذا النمط من السلوك الاجتماعي المتناقض يتولد من حدة العيش في الصحراء ، مقترنا بتفرد العيش في بادية تقوم على الجفاء، كما قال الرسول ( ص ). ولما كانت القبيلة هي الملاذ للفرد فانه يعيش فيها ويحتمي بقوتها ، ولذا فهو يفاخر بها في الوقت نفسه ، الامر الذي دفعه الى التدقيق في أصول هذه القبيلة ، ولذلك التفاوت بين القبائل في مكانتها ومنعتها وقوتها ، فهذه قبيلة كبيرة كثيرة العدد ، وتتميز بثرائها سواء أجاء هذا الثراء بنمو أموال تكاثرت ام جمال تناسلت ام جاء عن طريق السلب والنهب .
والناس في هذا المناخ لا يمثلون طبقة بالمعنى المحدد الذي نعرفه الان ، ولكن هناك نمطين من الناس ، نمط تعود اصوله الى خصوصية القبيلة من حيث الكثرة العديدة وامتلاك الأموال والثروات ، ونمط اخر اجبرته ظروف الحياة ان يكون في اصله خارج النظام القبلي بهذه الصورة التي اشرنا لها ، كمن وقع اسيرا ، وتم شراؤه من سوق النخاسة ، فاصبح لدينا مالك ومملوك ، أو قد يكون مملوكا لأنه من اسرة زنجية فانتقل اليه السواد ، وهو لون القبح ،وتنتقل اليه أيضا عبوديته ، ويعامل المملوك ( العبد ) بقدر كبير من الإهمال والتحقير.

2

تمثل القبيلة البناء الاجتماعي الأساسي الذي بنيت عليه الحياة في الجاهلية، وهي تعني تكويناً اجتماعياً يضم أسراً تنحدر من أصل واحد »ولها نسب مشترك يتصل بأب واحد هو أبعد الآباء والجد الأكبر للقبيلة، فالرابط الذي يربط بين أبناء القبيلة ويجمع شملها ويوحّد بين أفرادها هو الدم، أي النسب ، والنسب عندهم هو القومية ورمز المجتمع السياسي في البادية .والقبيلة هي الحكومة الوحيدة التي يفقهها الأعرابي، حيث لا يشاهد حكومة أخـرى فـوقها، وما تقرره حكومته هذه من قـرارات يطاع وينفـذ وبها يسـتطيع أنْ يأخـذ حقه من المعتدي عليه« .
ويمكن تجاوزاً القول إنَّ القبيلة تمثل كياناً كاملاً يشبه كيان الدولة اليوم، إذ لها زعيمها، ونظامها السياسي الذي يحكمها، فضلاً عن القوانين التي يلتزم بها أبناء القبيلة ولها أرضها التي تعيش عليها، إذ »لكل قبيلة أرض تعيش عليها وتنـزل بها وتعتبرها ملكاً لها، تنتشر بها بطونها وعشائرها، ولا تسمح لغريب النـزول بها والمرور بها إلا بموافقتها ورضاها .وقد اختص كل بطن منها بناحيته فانفرد بها واعتبرها أرضاً خاصة بها « وكان الأساس الذي يقوم عليه النظام القبلي هو العصبية، وهو » أنْ يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين، وليس له أنْ يتساءل : أهو ظالم أم مظلوم « .
وفي ضوء هذا تمثل القبيلة البنية الاجتماعية الكبرى التي تلم تحت كنفها الإنسان العربي، وتظله بحمايتها في إطار الرابطة العرقية التي تجمع بين أفراد القبيلة الواحدة، وقد قاد هذا إلى قدر كبير من التلاحم بين أفراد القبيلة، لأنَّ القبيلة إنما تمثلهم جميعاً وأصبحت أفعال القبيلة مؤثرة ومعبرة عن الفرد، كما أنَّ أفعال الفرد تعبر بالضرورة عن القبيلة سلباً أو إيجاباً، ولذلك كان الفرد في القبيلة يدافع عن القبيلة، وإنَّ القبيلة هي الأخرى تدافع عن الفرد ونتج عن هذا » نوع من اندماج الفرد داخل المجموعة، وإنَّ هذا الفرد إذا ما أحرز بطولات فهي تنسب لقبيلته أولاً، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن القبيلة قد تحارب بأكملها وتحرز « بطولات » دفاعاً عن هذا الفرد أصلاً، أي أنَّ التساوي الفردي والاندماج بين الأفراد داخل القبيلة ليس مجرد تكاتف قدر ما هو تبادل عضوي بين الفرد والمجموع، وإنَّ البطولة الشخصية النابعة من القبيلة ليست فردية بقدر ما هي جماعية فردية متبادلة « .
ويتكون المجتمع القبلي من طبقات متعددة، هي على النحو الآتي :
1- الصـرحاء .
2- المـوالــي .
3- العبيـــد .
أما الصرحاء فهم أبناء القبيلة الذين يرجعون في دمائهم إلى الجد الأعلى، ولا تشوب أنسابهم شائبة، وتتمثل فيهم » العصبية بأقوى معانيها، ومنهم تتكون الطبقة
» الأرستقراطية « في القبيلة، وفيهم رئاستها، وبيوتات الشرف فيها . وتعتمد هذه
» الأرستقراطية « أول ما تعتمد على النسب، ومن هنا كان حرص هذه الطبقة على أنْ يظل دمها نقياً، وعلى أنْ تجمع الشرف من » كلا طرفيه« الآباء والأمهات، فلا يكون في أحد طرفي الشرف ما يشينه « .
وقد تضطر القبيلة تحت وطأة ظروف معينة إلى خلع أحد أفرادها، أي أنها تحرمه عطفها وعصبيتها عليه، وقد يتم الخلع لأنه قد » أجرم، أو عمل عملاً ينافي شرفه أو شرف قبيلته، واستمر في غيه لا يسمع نصائح أهله وعشيرته « .
أما طبقة الموالي فتتكون من العربي الحر الذي لجأ إلى قبيلة أخرى غير قبيلته ـ لأي سبب كان سواء أكان خلعا أم غيره ـ وعاش في حمايتها، ، أو هو العبد المملوك أو الرقيق الأسير الذي يَمنُ عليه مالكه بالحرية، أي أنه يفك رقبته ويعتقه، ويصير المملوك بذلك مولى لعاتقه، ويمكن أنْ يكون المولى عربياً أو أعجمياً، ولكنه في كلتا الحالتين » أقل شأنا في مجتمعهم من الأحرار، إذ نظر إليهم على أنهم دون العرب الأحرار في المكانة، ولهذا قلما زَوَّجَ الأحرارُ بناتهم للموالي«
ويمكن القول» إنَّ طبقة الموالي في القبيلة العربية كانت ترجع إلى أصلين: أحـرار وعبيد، أما الأحرار فهم اللاجئون إلى القبيلة، أو إلى أحد أفرادها، من خلعاء القبائل طالبين الحماية والنصرة، وكانوا يسمون أحياناً »الحلفاء«، وأما العبيد فهم أولئك الذين أعتقهم سادتهم من نير الرق، فظلوا مرتبطين بهم برابطة الولاء « .
واطلقت كلمة الموالي في الاسلام على ” كل من اسلم من غير العرب ، وذلك لان هؤلاء اما ان يكون اصلهم اسرى حرب ثم استرقوا ، ثم اعتقوا فصاروا موالي ، واما ان يكونوا من اهل البلاد المفتوحة ، وهؤلاء كانوا حينما يسلمون ينضمون الى العرب ويدخلون في خدمتهم”
أما العبيد فهم الطبقة التي تقع في قاع القبيلة، فهم إما أولئك الأسرى الذين يقعون في أيدي القبيلة في صراعها مع القبائل الأخرى، وإما سود جلبوا من أفريقيا، وإما رقيق أبيض مستوردون من أسواق العراق أو الشام، وإما أناس كانوا مدينين »فلم يتمكنوا من سداد ديونهم فبيعوا رقيقاً، ومنهم من صار رقيقاً لعدم تمكنه من دفع مال يجب عليه تأديته « وإما أن يكونوا من الهجناء، والهجين هو ابن العربي من غير العربية وهو مخصص» بمن يولد من أم أعجمية بيضاء « وقيل من أم سوداء، ولما كان الدم العربي هو الذي يرفع من شأن العربي في القبيلة، فلذلك عابت العرب الهجين، واعتبرته » دون العربي الصريح لوجود دم أعجمي فيه، والأعاجم مهما كانوا عليه من منـزلة دون العرب في نظر العرب « .
ولما كان العرب يبغضون اللون الأسود، ويبغضون من ثم الزنوج، فلقد كان
» أسوأ هؤلاء الهجناء حظاً، وأوضعهم منـزلة اجتماعية أولاد الإماء السود الذين سرى اليهم السواد من أمهاتهم، فقد كانوا سبة يعير بهم آباؤهم . . . ومن هنا أطلقوا على هؤلاء السود اسماً خاصاً بهم تمييزاً لهم عن سائر الهجناء، فسموهم » الأغربة « تشبيها لهم بذلك الطائر البغيض المشئوم في لونه الأسود، ونسبوهم في أكثر حالاتهم إلى أمهاتهم « .
والعبيد أدنى طبقات المجتمع القبلي، إذ يقومون بالخدمة التي يأنف الإنسان الحر من ممارستها » وقد كان العبد ملكاً يباع ويشترى، بيع الأموال المنقولة، ويتصرف صاحب العبد به تصرفه بملكه الخاص، ولم يُخوّل القانون حتى إبداء رأيه في مستقبله في أي حال من الأحوال، لأنه ملك وبضاعة مملوكة، كالماشية، وإنْ كان إنساناً حياً له ما لكل إنسان من روح وإدراك وشعور « .

3

قدمت العقيدة الاسلامية تصورات متقدمة بخصوص العدالة والمساواة بين البشر ، ففي قوله تعالى ” يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ” اذ تؤكد هذه الآية الكريمة صفة التنوع البشري ،وان الخطاب يتوجه للناس جميعا ، ( يا ايها الناس ) بمختلف ألوانهم وألسنتهم ، كما يشتمل على التذكير بوحدة الاصل الانساني ( انا خلقناكم من ذكر وانثى ) فأناس جميعا يرجعون الى اصل واحد ، ويحدد ، من ثم ، مفهومين ، الاول :ان العلاقة بين الناس جميعا افرادا وشعوبا ،ليست تصادما ، كما يذهب الى ذلك المفكر الامريكي صموئيل هنتيكتون ، وانما هي علاقة التعارف ( لتعارفوا ) . والثاني ان التمايز بين الناس لا يقوم على اساس لون أو عرق أو اصل ، انما يقوم على اساس العمل ( التقوى ) ( ان اكرمكم عند الله اتقاكم ) وكذلك قوله تعالي ” انما المؤمنون اخوة ” واحاديث نبوية شريفة ، ( لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى ).
ان هذه التصورات المتقدمة لم تأخذ تأثيرها عمقا، اذ بمجرد ان مرت سنوات على وقاة الرسول حتى اختلت قضية العدل والمساواة بين الناس ، سواء اكان ذلك بتوزيع العطاء ام في المساواة فعليا بين الناس ، بمعنى ان العصبية القبلية عادت من جديد تتحكم في سلوكيات الناس .
وحين جاءت الدولة الاموية ازدادت العصبية القبلية ، وكأنها عودة الى ايام الجاهلية ، وان حالة الموالي ” كانت تتأثر بظهور العصبية القبلية واختفائها ، فكلما وجدت العصبية القبلية ساءت حالة الموالي وانحدرت منزلتهم ”
وصدق الجاحظ حين وصف الدولة الاموية بانها ” عربية أعرابية ” وتجلت هذه النزعة القبلية على السلوك العام في الدولة والمجتمع ، إذ ” لم يعاملوهم ــــ أي يعاملوا الموالي ـــــ على اساس من العدل والمساواة ” بل نظروا اليهم نظرة الغالب للمغلوب ، وهي نظرة كثيرا ما تنطوي على الازدراء والتحقير ” وتجاوزا ذلك الى الكثير من البغض والكراهية .
وعلى هذا الاساس فان الحجاج بن يوسف الثقفي ” لما نزل واسط نفى النبط منه ” وكتب الى عاملة في البصرة الحكم بن ايوب طالبا منه نفي النبط ” فانهم مفسدة للدين والدنيا ” ولكن الحكم بن ايوب ابقى من قرأ القرآن وتفقه في الدين ، فكتب له الحجاج اذا وجدت في جسمك عرقا نبطيا فاقطعه ” واكثر من هذا فان الحجاج ” امر الا يؤم في الكوفة الا عربي ، وانه لا يصلح للقضاء الا العرب ” .
ومن الغريب ان رجلا من الموالي خطب بنتا من أعراب بني سليم وتزوجها ، وحين علم والي المدينة ـــ حينذاك ـــ ( ابراهيم بن هشام بن اسماعيل ) ففرق بين الزوج والزوجة ، وضرب الزوج مائتي سوط وحلق رأسه ولحيته وحاجبيه ، وذكر ابن عبد ربه ان العرب كانوا يقولون لا بقطع الصلاة الا ثلاثة حمار أو كلب أو مولى
وكانت العرب اذا اقبل العربي من السوق ومعه شيء ، فرأى مولى دفعه اليه ليحمله عنه ، وكان العرب ” لا يكنون الموالي ولا يدعونهم الا بالأسماء والالقاب ، ولا يمشون معهم في الصف معهم ، ولا يتقدمونهم في المواكب … ولا يدعونهم يصلون على الجنازة اذا حضر احد من العرب ، وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم الى ابيها ولا الى اخيها ، وانما يخطبها الى مواليها ، فإن رضي زُوّج والا رُدّ. ” ورفض اعرابي حكم سوار القاضي في ارث تركه الاب لأبنائه الثلاثة ، وكان احدهم هجينا ـــ أي انه من ام غير عربية ـــ لان القاضي امر بتوزيع الارث فيهم بالتساوي .
ان هذه العصبية القبلية القائمة على الاستعلاء تركت اثارا نفسيه عميقة في نفوس الموالي ، بمعنى انهم شعروا بأن حقوقا قد اغتصبت منهم ، وظلما قد حاق بهم ، فقاموا ” يجاهدون لاسترجاع مجدهم والانتقام لأنفسهم ، وقد سلكوا لتحقيق تلك الغاية ثلاثة طرق :
اولا : السيطرة على الحركة الفكرية ، وقد استفادوا من ذلك فائدتين ، احداهما : انهم قد عضوا انفسهم بالعلم عن ذلك الازدراء الذي كان ينالهم من العرب حيث ان العلم يسمو بصاحبه ويرفعه ، وثانيتهما : ان بعضا منهم قد ادخل في الاسلام مبادئ غريبة ترجع الى ديانتهم القديمة ، فكان هذا من الاسلحة الفتاكة التي اوهنت من قوة العرب والاسلام .
ثانيا : مناوأة ذلك التيار القوي ـــ تيار العصبية القبلية ـــ بتيار قوي اخر وهو تيار الشعوبية ، وقد كان لذلك ارهاصات ومقدمات في العصر الاموي .
ثالثا : مؤازرة تلك الحركات الثورية المتعاقبة التي كانت تقوم ضد الدولة الاموية لكي ينتقموا لأنفسهم ويقتربوا من اهدافهم .
ولذلك تجلى واضحا انصراف الموالي للعلوم والمعرفة ، وبرزت شخصيات كثيرة مثل : سيبويه في النحو ، وبشار بن برد وابي نؤاس في الشعر ، والبخاري ومسلم في الحديث ، والامثلة كثيرة ، كما انهم اصبحوا وقودا للثورات من اجل تحقيق اهدافهم في المساواة واقامة العدل .

المثقف والسياسي ، ديمومة الصراع الضدي
ان مقولة برلماني عراقي مفادها ” على المثقف عدم التعالي على السياسي ” اثارت من جديد الصراع الضدي بين السياسي والمثقف وعضدته ، وتضمنت في الوقت نفسه اعترافا بأفضلية احد الطرفين ، كون احدهما يمتلك القدرة على انتاج المعرفة وامكانية تطويرها ، بمعنى : وعي الذات والواقع ، وفهــم الاخر , وتغيير العـــالـم ، في حين يفتقر الثاني الى ذلك ، كما تستبطن المقولة – أيضا – تلويحا بالتهديد : تبدأ مراحله الاولى باللـوم والعتاب ، كون المثقف يصدر عن نرجــسية خاصة ، ثم تتعـالى حدة الصراع الى التهميــــش ، ثــم النفـــي ، واخيــرا التصفية .
ويختلف منزعا المثقف والسياسي من حيث طبيعة عمليهما ووظائف تفكيرهما ، بين من يمارس الفعل في الواقـع ( السياسي ) وبين من يتعالى عليه ( المثقف ) ، وهذا يعني ان السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن ، في حين يتجاوز المثقف ذلك الى الآتي وما ينبغي أن يكون ، وتتحكم في سلوكية السياسي نزعة برغماتية تجنح في كثير من الاحيان نحو ميكانيكية تبريرية ، في حين يميل المثقف الى نزعة ترقى الى المثالية التي تهدف الى صياغة الواقع على وفق معطيات معرفية جديدة ، بمعنى الانتقال من الثابت الذي يصر السيــاسي على وجوده ، الى المتغير الذي ينشـــده المثقف ، لأن الثابت ( المعروف ) يبقي السياسي الحاكم في سلطتـــه أما المتغيــر ( المجهول ) فإنه يحدث خلخلة في الواقع وتغيرا يخشاه السياسي ويفر منه .
ويبلغ التعارض الضدي اقصى مدياته بين المثقف والسياسي في أحد أبرز المتون الثقافية
( الف ليلة وليلة ) ، إذ يتجلى بوضوح بين شهرزاد المثقفة العارفة المطلعة على الكتب والمصنفات والتي حفظت الأخبار ، واطلعت على الفنون ، فضلا عن امتلاكها القدرة على التأثير في القص والأداء ، ويقابلها السياسي / الحاكم شهريار الذي جعل الشك وسوء الظن وتعميم الأحكام غايته ووسيلته على السواء ، واستخدم البطش ببشاعة فائقة ، وليس من قبيل المصادفة أن يكون التعارض قائما بين السياسي والمثقف بل أنه اشتمل على تعارض ضدي آخر يقوم على أساس الجنس بين الرجل والمرأة , وكأنه يشير ضمنا الى تعارض ثقافي ذكوري ونسوي .
وإذا كانت شهرزاد قد تمكنت من ترويض الحاكم وشفته من عقده المرضية النفسية المركبة ، وتمكنت من إعادته الى حالته الطبيعية ، فأن عبداللّه بن المقفع قدم حياته ثمنا لنصائحه الرمزية للحاكم في كتابه ( كليــلة ودمنة ) ، ويتبدى التعارض بين الحاكم والفيلسوف ( بيدبا ودبشليــم ) إذ يمثل الأول كما يقول أستاذنا الدكتور جابر عصفور تمثيلا رمزيا لنموذج الحكيم العاقل ويمثل الثاني الحاكم الباطش ، وتبدو كليلة ودمنة أقنعة للمرامي على مستوى التعارض الرمزي بين السيف والقلم ، في تلك العلاقة المتوترة التي دفعت عبداللّه بن المقفع الى القول صراحة
( إن المـلـوك أحـوج الـى الكـتـاب مـن الكـتـاب الـى المـلـوك ) وكـمـا قال إبـن المـقـفـع :
( إن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم , وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال ) !! .