تقاسمت الابداع العربي في العصر العباسي مدرستا الطبع والصنعة ولقد اسهمتا بشكل جلي في الصراع الثقافي والمعرفي في تلك المرحلة ، ولا تعبر المدرستان عن الابداع الشعري فحسب ، وانما تعبران عن مرجعيتين معرفيتين متعارضتين ..تعنى الاولى بالنقل والوضوح والتعبير المباشر من دون تكلف وعنت ،بعيداً عن اساليب الصناعة اللفظية ،وتعنى الثانية بالعقل والتدقيق في المعاني ومحاولة الغوص في الافكار .الامر الذي كان يقود بالضرورة الى الغموض..
ولقد سئل ابو تمام ذات مرة ،لماذا تقول مالا يفهم ؟فرد على هذا السؤال بسؤال اخر وهو ولماذا لا تفهم ما يقال ؟وتحولت هذه المقولة لدى بعض الناس الى كلمة حق يراد بها باطل احياناً، واصبحت سيفاً يستخدمه ادعياء الحداثة في ذلك الزمان ويلوح بها ادعياء الحداثة المعاصرون ازاء خصومهم ،وتحت عباءة هذه المقولة مرت الكثير من النصوص التي لا تعبر عن شيء بالضرورة ،ولكن الخشية من الاتهام بالجهل يصفق لها المبتدئون ويصمت ازاءها بعض المثقفين.
ومازال الحديث قائما حتى اللحظة عن الوضوح والغموض فاصبح الوضوح قرين الاسفاف والتقليد وتحول الغموض بذاته الى قيمة ابداعية ولقد قلل باحثون ومنذ عقود من قيمة بدر شاكر السياب مثلا لانه لم يكن واضحا لدى فريق ممن يعلي من شان القصيدة التقليدية ويطربه ضجيج الايقاع والاستعارات والتشبيهات المألوفة..
بل كان يعيب بعضهم على السياب توظيفه للأساطير واستخدامه للقناع…كما قلل في الوقت نفسه بعض الباحثين والمتذوقين من السياب نفسه لان حداثته لم تصل درجة للارتقاء بحيث تصل تخوم ابداع الحداثة الغريبة تلك التي انبهرت بها جماعة شعر كيوسف الخال وادونيس ..واصبح الغموض والوضوح قيمتين للصراع الضدي الفكري لدى الباحثين والدارسين يستهوي بعضهم هذا أو ذاك..
ويبدو ان هذه الظاهرة انتقلت من الابداع الشعري ذاته الى الكتابات النقدية والفلسفية وما ينشر في بعض المجلات والصحف من مقالات أنثروبولوجية واجتماعية وغيرها.