كانت الحركة الاعتزالية تنظيرا عقليا للدين كما يقول ادونيس , بمعنى انها نقلت التدين من التلقين الى التعليل ومن التسليم الى التساؤل , واضفت على كل شيء طابعها الخاص , بمعنى انها فسرت الكون والمجتمع والانسان في ضوء منهجيتها العقلية .

وكان المعتزلة يتأملون النص – القرآن الكريم والسنة النبوية – في ضوء ثوابتهم العقلية , بمعنى ان كل ما يتعارض مع أدلة العقول ينبغي ان يخضع لها تفسيرا وتأويلا , ولذلك فإذا تعارض الدليل النقلي – متمثلا في القرآن الكريم أو السنة النبوية – مع الدليل العقلي – متمثلا بثوابت العقيدة الاعتزالية – يخضع الدليل النقلي للتفسير والتأويل عبر المجاز والمحكم والمتشابه .

وكان العدل قضية عقلية , ويعد واحدا من اهم اركان الايديولوجية الاعتزالية , لأنه يهب الانسان حرية العقل الانساني المقترن بالإرادة , بمعنى ان العدل جعل الناس متساوين , وتلك القضية تلهج بها البشرية منذ ان وجدت وحتى اليوم .

ويتحدد العدل في ضوء فهمه العام بأنه (وضع الشيء موضعه ) وان نقيضه الظلم في ضوء مفهوم المخالفة هو ( وضع الشيء في غير موضعه ) وهذا كلام متقدم على الازمان , غير ان المعتزلة وهم ابرز العدلية في الفكر الاسلامي تنصلوا تماما على مستوى التطبيق عن عقليتهم وعدليتهم , واخذوا يفرضون على الاخرين رؤاهم , وأفكارهم ، وبخاصة في قضية خلق القرآن التي تحولت الى محنة عانى منها المسلمون فمن لا يؤمن بخلق القرآن يعد مارقا عن الدين وخارجا على مقدساته , بمعنى انهم على مستوى التطبيق كانوا ابرز ممثلي ( وهم العدالة) .

وليس الامر غريبا على كثير ممن يلهجون في الماضي القريب وكذلك اليوم .. بضرورة اقامة العدل كل العدل .. ولا يزالون يكررونه وهم في مواقع الامر والمهنية , ولكنهم على مستوى التطبيق وقعوا في ما وقع فيه المعتزلة اذ أخذوا يفرضون (وهم العدل ) على كثير من الناس .. واذا كان التاريخ لايعيد نفسه كما أعتقد واظن .. ولكنه اليوم – في هذه القضية بالذات – يكرر النسق القديم بأثواب جديدة .. وتتكرر لا محنة خلق القرآن فحسب وإنما محن اللاعدل وأوهامه المستشرية في كل مفاصل الحياة خصوصا الثقافية منها . وستكون النهاية واحدة .