تتميز الثقافة العراقية المعاصرة بالتنوع والتعدد والتباين ، أذ ليست الثقافة – في القديم والحديث – كتلة مصمتة ، وانما هي كالواقع تماماً لا تعرف الاستقرار والثبات ، بل هي في صيرورة دائمة ، وقد يبدو ظاهرها دالاً على التجانس والتناغم ، فهذا ما يحدث على السطح ، اما ما يحصل في العمق فهو اضطراب وتغير مستمر .
وقد يصدق القول حين نصف بالثبات بعض التيارات الفكرية التي تعود الى التراث محاكية منجزاته ، ومعيدة صياغة مقولاته ، لأنها تعيد أنتاج ما تم انتاجه ، بمعنى انها لا تقدم جديداً في الثقافة والمعرفة ، ويماثلها بالثبات تصور متوهم ينسخ انجازات الاخر على نحو النقل والمحاكاة ، مدعياً صياغة مشروع للتقدم ، غير انَّ كلا التصورين يقع في فهم ساذج يخشى فيه الاول من ضياع الهوية وفقدان الخصوصية ، فيلوذ بالتراث ، اذ يتصور انَّ مواجهة الاخر تتم من خلال استحضار الماضي ، وصياغة الحاضر في ضوئه ، ويتصور الثاني انَّ التخلف الذي نعيشه مرده الى هذه السلسلة المتخلخلة من الافكار القديمة التي لابد من اطراحها واستبدالها بثقافة الحداثوية والتقدم .
ويقترن الجبر والنقل واستعادة الماضي بثقافة الثبات ، في حين تقترن الحرية والعقل وأستشرف المستقبل بثقافة التحول ، الأمر الذي يؤكد تعارض الاتجاهين ، اذ لا مستقبل للثقافة الاولى الا في عودتها الى جذورها القديمة لانها تستعيد العصر المشرق القديم وتصوغ الحاضر في ضوء معطياته وتجلياته ، ويتحدد حاضر الثقافة الثانية في ضوء استشراق نظرتها للمستقبل ، لان الحاضر في حركة مطردة نحو الامام وتتجلى فيه قدرة العقل الخلاق في الابداع والابتكار .
وفي هذه الحالة يعنى النمط الاول بشرح النصوص وتفسيرها وايضاحها وايصالها الى المتلقي ، وغالباً ما تكون النصوص قديمة ، الامر الذي يجعل الثقافة شرحاً لمتون سابقة كانت نتاجاً لمرحلة تاريخية عبرت عن مشكلات واقع يختلف تماماً عن واقعنا ، وطرحت فيه تساؤلات ملحة أجاب عنها علماء بحسب رؤاهم وتغيرات أزمانهم وصيرورتها ، ومن ثم فان الوعي المتولد من هذه الثقافة هو وعي ماضوي يعلي من شأن التقليد على ضوء : جبرية قدرية تحكم التفكير ، ونقل لا يتجاوز الايضاح عبر الشرح والتفسير ، وعودةٍ لماضٍ عريق ، ولعل هذا يسهم في صياغة حاضرنا على غراره دون وعي الفوارق النوعية بين الزمانين ، بحيث تجعل من حاضرنا متقدماً ما دامت معرفتنا الحالية صورة للمعرفة التي كانت في زمانهم ( هناك ) ، ولابد أن نجلبها ونحضرها الى زماننا ( هنا ) .
ان القيمة والافضلية بهذا الوعي تاريخية تنازلية تكون أفضل ما تكون كلما اوغلنا في التقدم الى زمن الرسالة ، وتكون أسوء ما تكون كلما تقدمنا نحو القيامة . وكأن رحلة الانسان نحو الاسوأ كلما تقدم الزمن ، بحيث يفقد فيها الانسان قدرته في احداث الحدث لان الجبرية تحيط به ، وتحدد مسيرته ومستقبله ، الامر الذي يجعل النقل – وهو دال على الغاء العقل – المعرفة في البدء والختام .
ان ثقافة التحول تبحث عن الجديد وتجذيره في الفكر و السلوك واستمرارية الكشف عن قوى خلاقة جديدة واحداث تغييرات في منظومة القيم وتطويرها ايجابياً ، ومساءلة الافكار السائدة المهيمنة ونقدها ذاتياً .
ويحق للإنسان في هذه الثقافة ان يحلم ولكن ليس كحلم الرومانسيين وأصحاب الابراج العاجية الذي يتوقف عند التمتع بالحلم ، أو على احسن الاحوال ( فهم العالم ) ولكنه – الانسان – يسعى الى تحويل حلمه وفهمه الى مناهج ورؤى وتصورات وافكار تهدف الى ( تغيير العالم( .
وتتجاهل هذه الثقافة – الى حد كبير – قوى القمع الخارجي – حكومة ، مؤسسات ، أحزاب ، عشائر ، أفراد – وتتجاهل ايضاً قوى القمع الداخلية – خوف ، قلق ، تردد – وتكشف عن المسكوت عنه الذي قد يدل على تابو ، سواء كان دينياً أو سياسياً أو قيمياً .
اننا في هذا السياق نود تأكيد :
اولاً : نزع هالة القداسة عن الكثير من الافكار السائدة والمهيمنة التي تولدت قداستها عن جهل جعل التقليد متحكماً في الابداع ، والنقل متحكماً بمنهج التفكير .
ثانياً : كسر طوق عقدة الشعور بالنقص ازاء ثقافة الاخر ، وهذا يعني تحديد موقف علمي صارم ودقيق من التراث أولاً ومن ثقافة الاخر ثانياً ، وفي الوقت نفسه يؤكد تأصيل ثقافة عراقية مستقلة تكتنفها وتحيط بها ثلاثة ابعاد :
أ- فهم متفتح ومستوعب لمنجزات الماضي وتفيل تصوراته ورؤاه بحيث تسهم في الاجابة عن تساؤلات ملحة نعيشها في الحاضر ، بمعنى ان يتحول الماضي والتراث الى قوة دفع وخلق لحاضر الثقافة وتنميتها ، مع التأكيد انَّ اي تجديد لا يمكن ان يتم الا بعد وعي وفهم القديم تماماً .
ب- وعي وانفتاح مسلح بخصوصية وعدم الشعور بالدونية ازاءه كي لا تتحول ثقافتنا الى صورة ممسوخة مشوهة من حضارة الاخر .
ج- وعي لما يجري في الواقع من حراك وصيرورة ، ومحاولة التفاعل معه ، والكشف عن تجلياته واستشرافات المستقبل .