كان شعور الإنسان بالجميل أسبق من خلقه له ، فلقد انبهر الإنسان بمظاهر الجمال في الطبيعة واستمتع بها ، غير أنَّ صنعه للجميل جاء متأخراً عن مراحل الشعور والدهشة ، ومما لا ريب فيه أنَّ الجمال في الطبيعة لم يكن من خلق الإنسان ولم تتدخل فيه إرادته ووعيه ، غير أنَّ ما خلقه الإنسان في مراحل لاحقة في الفنون والآداب من جمال إنما هو خاضع لإرادته ووعيه ، إذن هناك جمال خارجي لم يتدخل الإنسان في صنعه ، وهناك جمال داخلي أبدعته الذات الإنسانية ، وهو خاضع لمعطياتها ومعاييرها ، ولا ينفي هذا الفصل بين الجمال الطبيعي والفني القوانين الكامنة في الجمال الطبيعي ، وإلا لو لم يكن هناك قانون يحكم الجمال الطبيعي لما استمتع الإنسان به وشعر بوجوده واندهش بمرآه ، غير أنَّ هناك سؤالاً يطرح نفسه : ما هو الجمال ؟ أي ماهي المكونات التي تحدد إنْ كان هذا الشيء جميلاً أو قبيحاً ، وهل هي خصائص قارة في الشيء الجميل أو قارة في الذات الإنسانية ؟ وبمعنى آخر ، هل يصح أن تطلق كلمة الجمال على الموضوع سواء أكان الإنسان موجودا أم غير موجود ؟ أي هل للجمال وإدراكه خاصية إنسانية توجد بوجوده وتنتهي بعدمه ؟ .
ونلتقي في هذا السياق بتصورين متعارضين ، يرى أحدهما أنَّ للجمال وجوداً موضوعياً مادياً خارج الذات المدركة ، ويتمثل في الوجود المادي للموضوع الجميل وكيفية ترتيبه وتشكيله ، وما دام للجمال وجود موضوعي فإنه يمكن تذوقه والاستمتاع به ليس لدى مبدع الموضوع الجميل فحسب وإنما لدى الناس جميعا .
ويرجع الجمال لدى التصور الآخر الى الذات الإنسانية فهي التي تحدد للجمال وجوداً في الخارج وهو في حقيقته انعكاس الذات على المظاهر الخارجية أو الفنية ، ويكون إدراك الجميل وتذوقه ، في هذه الحالة ، بمدى تأثيره بالمتلقي .
ويشتمل الموضوع الجميل على عنصرين متداخلين :
* أولهما : المادة التي يتكون منها الموضوع الجميل سواء أكان كتلة الحجر في النحت أم الأصوات في الموسيقى أم الألفاظ في الأدب .
* ثانيهما : كيفية التشكيل ، أي التدخل الإرادي للإنسان الذي يعمل على تحويل المادة من كونها موضوعاً لا قيمة فنية له الى موضوع له قيمة فنية وجمالية ، ويلتقي الموضوع الجميل ، طبيعياً كان أم فنياً ، في هذه الخاصية وهي المادة والتشكيل ،ýغير أنَّ تشكيل الجمال الطبيعي قد تم عفوياً واعتباطياً ، ولكنه في الجمال الفني تشكيل مقصود عمد اليه الفنان بوعي وإرادة.
ويتميز الجميل عن النافع بعدة أمور من حيث الحكم عليه ، إذ نقول عن النافع إنه حسن الصنع أو رديء الصنع ،ý في حين نطلق الحكم القيمي على الموضوع الجميل فنقول : إنه جميل أو قبيح ، وهذا يعني أنَّ الموضوع النفعي يدعونا الى أنْ نستخدمه دون أن نتذوقه ، في حين يكون الموضوع الجمالي مجالاً للتذوق ، ولذلك فإن اللوحة الفنية « لا تزيد في صلابة الحائط في شيء …. وأما هذا الكرسي الذي تجلس عليه فإنه قد يكون مريحاً دون أن يكون جميلاً على الإطلاق » وإذا انتقلنا الى تطبيق ذلك على الأدب وعلى لغة الأدب بخاصة لألفينا لغة النفع « لا تحمل أية دلالة فردية شخصية »في حين أنَّ لغة الجميل لغة « شخصية تحدثنا عن صاحبها » .
ويبدو أنَّ هناك خصائص جوهرية لا بد من توافرها لتحديد ماهية الجمال وتتمثل في العناصر الآتية :
* الانسجام بين الجزئي والكلي ، ويتحقق ذلك من خلال العلاقة والتفاعل الذي تولد بين الجزئي والكلي ، لأنَّ الكل ليس حاصل مجموع الأجزاء وإنما هو علاقة الأجزاء وتفاعلها ببعضها في إطار الكل ، ويمكننا تمثيل ذلك بوحدة البناء ، وبخاصة بناء المسجد ، فإن هناك تناغماً وانسجاماً بين الحائط والمئذنة ، وانسجاما وتناغما بين كل مكون من المسجد وآخر في لون من التفاعل يشكل الوحدة النهائية الكلية للبناء .
* التكرار بين الوحدة والتنوع ، أما التكرار فإنه يمثل جانبا آخر من الجمال ، سواء أكان حسياً بصرياً أم مسموعاً ، إن التكرار هو « إعادتك للوحدة التي بدأت بها على النظام المخصوص » والتنويع « هو أن تستبدل الوحدة بعد فترة بوحدة آخري مباينة لها شيئا يسيراً، وتعيد هذا النسق فيما بعد » فالشبابيك في الجامع تتكرر بوحدات معينة ، وتقع بين مسافاتاها أبعاد متنوعة ، واعمدة الجامع تتكرر وتتنوع بينها مسافات مختلفة ، وكذلك الزخرفة خطوط ودوائر ورسوم تتكرر عبر مسافات معينة ، وكذلك الشعر تتكرر فيه أصوات موسيقية إيقاعية ، مكونة الإيقاع وتنوعه .