في اثناء دراستي الجامعية في بغداد كنت تواقا لإكمال دراستي العليا ، ولذلك بذلت جهدا متميزا فحصلت على تقدير ممتار في كلية الآداب ، غير ان قبولي في الجامعات العراقية للحصول على الماجستير كان مستحيلا ، لان التقديم لهذه الدراسة كان لا يتم عبر القنوات الطبيعية في الجامعة ، وانما يتم عبر الأبواب الخلفية وممرات الدهاليز الضيقة ، وكنت رافضا هذا الأسلوب الفج ، أسلوب : كن تابعا لي سياسيا وامنيا تحصل على كل الامتيازات ، ومن المؤسف ان هذا الأسلوب لا يزال مستمرا حتى الان، ونحن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين ، اذ لم تتغير سوى المسميات .
ونظرا لاستحالة الدراسة في وطني ، وعلى الرغم من كوني من الأوائل ، اضطررت الى السفر الى مصر بعد قبولي في جامعة القاهرة .
وفي اول رحلة لي في حياتي في الطائرة اختارتني مضيفة الخطوط العراقية وشخصا اخر للانتقال الى الدرجة الأولى بسبب فراغ فيها ، واكتظاظ في السياحية ، وانا في أواسط العشرينات بجوار رجل في خمسينات العمر ، يبدو مثقفا في زيه وطريقة كلامة ، ودار بيننا حوار .
كان اهتمام المضيفة كبيرا برفيق دربي المثقف ، وطلب منها شرابا ، اما انا فطلبت عصير برتقال، لازال طعمه لذيذا في فمي حتى الان .
ودخلت جامعة القاهرة ميمما شطري نحو قسم اللغة العربية ، كانت محاضرات الدراسات العليا عصرا ، ووقفت عند باب قسم اللغة العربية وطرقت الباب ، وكان مفتوحا ، وألقيت التحية ، وسألت هل هنا محاضرة الدكتور شوقي ضيف ، اشاروا الي بالدخول ، كان الجالسون لا يزيدون عن خمسة ، ولكني لم اعرف من هو شوقي ضيف .
غرفة قسم اللغة العربية بسيطة وصغيرة ومتواضعة في اثاثها ، ويجلس فيها عادة كبار اساتذة اللغة العربية ، وما ان جلست حتى تبين لي ان هناك احتفاء برجل كبير في السن ،ويحيطه طلبة وأساتذة ، عرفت ـــ فيما بعد ــ ان د النعمان القاضي احدهم ،وكان يتعامل مع د شوقي ضيف بقدر كبير من الاحترام والتبجيل .
سألني شوقي ضيف عن اسمي وبلدي وتقديري العلمي ، واستمر في حديثه عن الجاحظ ، ونثر الجاحظ ، ولقد عرفت من خلال حديثه ان درسنا سيكون عن ( المناظرات في ادب الجاحظ ) ، ولقد اغتنم احد الزملاء العراقيين هذا العنوان وكتب رسالة ماجستير متواضعة.
وفي اثناء الحديث طرحت اسئلة على شوقي ضيف ، الذي شعرت بفرحه وسروره من جرأة تلميذه الجديد ، ومن كونه قد قرأ لأستاذه قبل مجيئه الى القهرة ، وكان احد اسئلتي عن الواقعية في ادب الجاحظ ، فلقد وصف شوقي ضيف ادب الجاحظ بالواقعية في احد مؤلفاته ، وهل هذه الواقعية كم نفهمها بحسب المذاهب الحديثة ؟ ام انها واقعية من نوع اخر.
ودار حوار وكتابة بحوث طيلة عام دراسي ، وترسخ في ذهني ان طريقي ليس مع د شوقي ضيف بوصفه مؤرخا للأدب ، وعلى الرغم من استفادتي من خبرته العميقة ورعايته لي فاني كنت في حينها يطغى علي شعور التلميذ النابه الذي يروم صعود الجبال الوعرة وليس السير وسط حقول غناء في السهل والوادي ، وهكذا كنت افكر ، غير ان هذا كلفني كثيرا من الجهد والتعب .
وقد استهوتني محاضرات الدكتورة سهير القلماوي التي كانت تدرسنا ( نظرية الرواية ) وتطبيقاتها على روايات الصراع الحضاري بين الشرق والغرب ،وكان التركيز على : اديب لطه حسين ، وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم ، والحي اللاتيني لسهيل ادريس ، وموسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح .
وقابلت هذا بحماس شديد ونشاط وشرعت بقراءة معمقة لما كتب عن الرواية ، وحين وزعت علينا د سهير القلماوي بحوثا عن هذه الروايات اخترت رواية موسم الهجرة الى الشمال للروائي السوداني الطيب صالح ، وقدمت بحثا ، نشر بعد ذلك في مجلة الجامعة الموصلية . ولقد كنت منبهرا بهذه الرواية ، حيث يكتنفها بعدان ، احدهما يتصل بصراع الاجيال ، وثانيهما يتصل بالصراع الحضاري بين الشرق والغرب .
ولقد اقتنصت الاشارة للحرب التي عاصرها بعض شخصيات الرواية ، ولذلك تحدثت عن ثلاثة اجيال ، جيل ما قبل الحرب ، وجيل الحرب ، وجيل ما بعد الحرب ،وتحدثت عن خصائص كل جيل ،ومن ثم الصراع الحضاري المدمر في جيل الحرب .
وفي قسم اللغة العربية مدرستان ، وكلتا المدرستين، قد خرجت مت تحت عباءة أو معطف طه حسين ، تاريخية ونقدية ، وكان يمثل المدرسة التاريخية شوقي ضيف ، ويوسف خليف ، والنعمان القاضي ، وعبد الحكيم راضي ، ويمثل المدرسة النقدية سهير القلماوي وتلاميذها : عبد المحسن بدر المتميز بمنهجيته النقدية الصارمة ، ومواقفه القروية الثابتة الراسخة وكأنها حد السيف ، وكانت نزوعاته مرتبطة بالمد القومي الناصري ، وكذلك تلميذها عبد المنعم تليمة الماركسي العتيد ، وتلميذها الناقد اللامع جابر عصفور، وكذلك نصر حامد ابو زيد ، وقد تركت المدرسة النقدية اثارا عميقة على توجهي النقدي وطبيعة منهجي وتفكيري النقدي .
وقد اتصلت بالدكتور جابر عصفور لتسجيل رسالتي للماجستير ( نقد القصة القصيرة في العراق حتى سنة 1967 ) واستقبلني في شقته في حي الدقي في القاهرة ، وسألني عن انتمائي ، فقلت له اني مستقل ، فضحك ، وقال لي : ستكشف عن رؤيتك وموقفك في اثناء كتابة بحثك ، وقدم نفسه لي ، وقال : انا د جابر عصفور عضو الحزب الشيوعي المصري ، ولكني ـــ في الحقيقة ــ بعد معرفتي العميقة به ، لم يكن جابر عصفور ماركسيا ، وانما كان مثقفا تنويريا يميل نحو اليسار ,