حين دلف الى عالم البحث والدراسة في القاهرة ، كان يعد نفسه أمهر أقرانه من الطلاب والطالبات ، خليط ، مصريون ، وعراقيون ، وجزائريون ، وكويتيون ، وشاء له أن يسجل بحثه للماجستير بعنوان (( نقد القصة القصيرة في العراق )) وأخذ يشرع بكتابة البحث مع استاذه الناقد المعروف الدكتور جابر عصفور ، وقد اشترط عليه قراءات عديدة وترجمة فصول من بعض المراجع الانجليزية ، ثم سلم استاذه الفصل الأول ، ثم كان اللقاء ، فلاحظ الطالب أن ملاحظات استاذه كثيرة ، وأن أستاذه كلمه بقدر من الحدة والحزم ، فشعر بحزن شديد ، أدرك أستاذه ذلك منه ، فقال له استاذه ، اسمع يا فلان : كنتُ الأول على قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة ، وسجلت بحثي في الصورة الشعرية عند الاحيائيين ، وكانت تشرف على البحث الدكتورة سهير القلماوي ، وكنت طموحا ومزهوا ـ كما تبدو أنت الآن ـ بقدراتي العلمية ، وسرعان ما انجزت الفصل الأول ، وسلمته لها، وكانت آنذاك رئيسة الهيئة المصرية العامة للكتاب ، وطلبت مني أن أعود اليها بعد اسبوع ، كي توضح لي موقفها من الفصل الذي فرغت من كتابته بشهر أو يزيد ، ولما ذهبت اليها ، وبمجرد دخولي مكتبها ، وقفت بغضب شديد ، وصرخت بي بقسوة وعنف ، وقالت : شوف يا ولد ، خذ هذه الورقة واذهب الى مكتبة الجامعة الامريكية ، واتصل بمدام فلانه ، وخذ المراجع الانجليزية ، وبعد أن تفرغ من ترجمتها عليك أن تعود الي . أخذ يشرح الدكتور جابر لتلميذه كيف خرج حزينا ثم سار ماشيا على قدميه الى المكتبة الامريكية ، وكانت دمعة أو أكثر قد طفرت من عينيه ، وحين وصل الى المدام أصرت وهي المصرية على التحدث معه باللغة الانجليزية ، وكل الذي فهمه أنه استلم الكتب ، ثم خرج بها بحزن أشد . بقي سنة كاملة يترجم ويتعلم ، ثم ذهب الى استاذته وأخبرها أنه فرغ من ترجمة المراجع ، عندها أخرجت له الفصل الذي كتبه ، ثم سألته ماذا ستفعل بهذا الفصل ؟ رد عليها : سأمزقه . ثم قالت له اسمع يا ولدي : أحكي لك حكايتي مع استاذي الدكتور طه حسين ، فلقد ذهبت اليه وقد كتبت الرسالة كاملة ، وأخذها مني , وحدد لي موعدا لإبداء ملاحظاته عليها ، وحين ذهبت اليه في الموعد المحدد ، وجدته قد وضع رسالتي على المنضدة ، وقال لي بصوته الصارم ولهجته القاسية : يا سهير خذي رسالتك … مزقيها !! وشرعت بتمزيقها ، ثم قال اذهبي واكتبي من جديد !!
قهقه الدكتور جابر ، وقهقه معه تلميذه ، وواصل حديثه : لقد قالت الدكتورة سهير القلماوي الا ترى ـ يا بني ـ أنكم تلاميذ آخر زمن !!