تدل القراءة لغويا على الجمع ، والضم والتفقه ، والتلفظ والإبلاغ ، و يدل التلفظ على إخراج الوحدات الصوتية من الجهاز النطقي ، ويشتمل على الفهم الأولي البسيط الذي نهدف إلى تحديده ، غير أن القراءة تخرج إلى دلالة أخرى تعني الفهم « التفقه » والتوصيل « الإبلاغ » ، والأخيرة تتضمن الفهم أصلا ، إذ كيف يمكن التوصيل دون فهم ووعي لما في الخارج والذات سواء بسواء . ومن ثم فإن القراءة تعني تتبع الرموز اللغوية ، ووعي دلالاتها وإدراك معانيها ، بعد وعي طبيعة الأنظمة اللغوية ـ صوتية وصرفية ونحوية ودلالية ـ التي تتضمنها أي لغة ، وهذا يعني أيضا أن القارئ يقوم بتكييف هذه الرموز « على نحو نسقي ليدركها في قران دون غيره ، في الوقت الذي تقوم فيه الرموز بتوجيه حركة القارئ – خلال فعل الإدراك – إلى أحد القرانات المدركة )) بمعنى أن الذات تتفاعل مع النص المقروء وتقدم ناتجا من تجادلهما .

إن القراءة ليست فعلا فيزيولوجيا يتأتى بإحداث الوحدات الصوتية عبر النطق بحسب ما تقتضيه الأنظمة اللغوية لأي لغة ، وإنما القراءة ، سواء أكانت قراءة للعالم بوصفه وجودا يقع خارج الذات الانسانية ، أو نصا بوصفه تشكيلا لغويا تعني الفهم ، ومن ثم فإنها تمثل نشاطا معرفيا ذهنيا يختلف ويتفاوت بحسب رؤية القارئ وبحسب طبيعة النظر إلى العالم والنص ، والزاوية التي يتم الصدور عنها .

إن القراءة في ضوء هذا الفهم مولدة للمعاني وكاشفة للصور التي يتضمنها العالم والنص ، ومن ثم فإنها ـ بحسب علي حرب ـ « تعيد انتاج المقروء » فكأن المقروء ـ عالما أو نصا ـ موجود، ويصبح بعد القراءة موجودا آخر، لأن القراءة ليست نقلا للمقروء ، أو احضارا له ، إذ يضفي القارئ على المقروء رؤيته ، وذاته ، وخصوصيته ، ويتولد من العلاقة بينهما مركب جديد ، ليس هو المقروء تماما ، وليس هو القارئ بما هو عليه ، وإنما هو مركب منهما معا بكيفية خاصة ، ولذلك تتفاوت القراءات لاختلاف القراء ، وكأن المقروء ثابت قبل القراءة ، وتتغير صورته ومعانيه ودلالاته بفعل عملية القراءة التي ترتبط بخصوصية القارئ ورؤيته .

ويمكن القول تجاوزا أن النص قبل القراءة يعرف استقرارا نسبيا في دلالته ومعانيه ، ولكنه ـ في الحقيقة ـ استقرار متوهم ، إذ لا وجود حقيقي للنص إلا في أثناء قراءته ، نعم هناك وجود موضوعي فيزيفي للنص خارج الذات الانسانية ـ متمثلا في الكتب ـ التي أنتجته ، أو تقرأه ،ولكنه وجود هامد ، ولكن وجودها الفعلي يتحقق عبر قراءته .

وليست هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة وإنما هناك قراءة ممكنة يحتمل النص دلالاتها ويعكس القارئ رؤيته ومواقفه من خلالها ، وهناك قراءة غير ممكنة ، لعدم احتمال النص دلالتها ، وبخاصة القراءة الاسقاطية التي سيأتي الحديث عنها .

إن قراءة النص بمعنى فهمه تتضمن الأبعاد التالية :

1 ـ الفهم المباشر دون حاجة إلى تفسير أو تأويل .

2 ـ التفسير ، إذ حين يستعصي الفهم المباشر نشأت الحاجة إلى الانتقال إلى فهم آخر يقتضيه السياق وقرائن اللغة ، فإن كلمة الوحي حين ترد دون سياق أو قرينة لغوية لها دلالة تختلف عن معناها في قوله تعالى : « وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ » .

3 ـ التأويل : وهو مرحلة متقدمة في فهم النص ، تعني إخراج اللفظ من معناه الحقيقي الذي يدل عليه الفهم المباشر ، أو سياقاته ، إلى معناه المجازي . ولذلك فإن التفسير « بيان وضع اللفظ حقيقة كتفسير الصراط بالطريق والتأويل إظهار باطن اللفظ … فالتأويل خاص و التفسير عام فكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويلا »

وتتركب عملية القراءة من ثلاثة مكونات : القارئ ، والمقروء ، وناتج القراءة ، وقد يوحي ترتيب هذه الأبعاد اولية  القارئ ، بمعنى فاعليته ، وانفعالية النص ، ,بحيث تكون القراءة مجرد نتيجة لعملية ميكانيكية ـ تتماثل فيها النتائج والمقدمات ، وليس هذا صحيحا في الواقع ، لأن هناك جدلا بين القارئ والمقروء ، يتولد من تفاعلهما المحتدم وتصارعهما بفعل العلاقات المتشابكة والمعقدة والمتداخلة ، ناتج القراءة ، ويشتمل كل من عنصري عملية القراءة « القارئ / المقروء » على خصائص تميزه ، وإن أغفال هذه الخصوصية وأدراك أهميتها يقود بالضرورة الى فهم سلبي لعملية القراءة والنتائج المتولدة منها , بمعنى أن إغفال هذه الخصوصية أو التهوين من قيمتها وأهميتها ، يعني هيمنة أحد طرفي عملية القراءة ، فإما أن تكون الذات فاعلة إزاء موضوعها ، بحيث تلغي المقروء ، أو تقرأه خارج دلالاته وسياقاته ، أو أن يهيمن المقروء على القارئ ، فيتحول الى مجرد ناقل ، وكلا الأمرين يعني ناتجا سلبيا ، يلغي أحد طرفي المعادلة ، ويقدم قراءة أقل ما يقال عنها أنها قراءة سلبية .

وقد تكون القراءة السلبية ذاتية تتخذ من التراث وسيلة دفاعية يؤكد فيها القارئ ذاته ، بحيث يستعيد المعايير النقدية التراثية ويضخم من جوانبها الايجابية ، ويحاول اسقاطها على الحاضر والمستقبل ، والهدف من ذلك الاحتماء بالتراث في مواجهة تيارات معاصرة ، وعلى الرغم من سلبية هذه القراءة فإنها في الوقت نفسه يمكن أن تسهم في بداية لقراءة نقدية واعية ، لأنها تستبعد الجوانب السلبية في عصور الانحطاط ، والأهم من هذا أنها تحذر من الانسياق وراء القراءة الشكلية والسقوط في الانجازات المستوردة ، غير أن التوقف عند هذه الغاية لن يحقق جديدا ، لأن التراث النقدي يمارس سلطته على الحاضر والمستقبل ،وهذا ما حصل فعلا في القراءة الاحيائية التي هيمنت فيها الأصول القديمة على النقد المعاصر ، وأصبحت غاية مقصودة لذاتها .

ولا تختلف القراءة الرومانسية عن هذه القراءة في السلبية ، إذ تمثل هذه القراءة قطيعة معرفية مع التراث ، إذ يعتمد الناقد على أصول نقدية مستوردة ليست من صنع حاضره ، أو من تراثه ، وبذلك يستبدل حاضره وماضيه بحاضر نقدي للآخر .

ويكن تبني قراءة تتفاعل فيها الذات بموضوعها ، إذ يدرك الناقد ان لتراثه حضور قديم محدد بسياقاته التاريخية والاجتماعية والمعرفية ، وحضور معاصر خاص بزمن القراءة الحالية وملتحم برؤية القارئ المعاصر وثقافته ، ويتأسس على الوصل والفصل ، إذ يجعل « المقروء معاصراً لنفسه على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي ، [ ويجعل ] المقروء معاصراً لنا ، ولكن فقط على صعيد الفهم والمعقولية ».