لقد كنت محظوظا في اثناء دراستي الجامعية في بغداد ، حيث تلقيت المعرفة على كبار أساتذة اللغة العربية في العراق ، ففي النحو والصرف كانت تجربتي المعرفية فريدة ومتنوعة لدى استاذين كبيرين ، الدكتور فاضل السامرائي والدكتور حسام النعيمي اللذين كانا يحفران بعمق في بنيات اللغة العربية ، وكان فاضل السامرائي متألقا حين يتوغل بعمق ورفق في الآيات القرآنية الكريمة ، ويكشف عن دلالاتها الجمالية ، الامر الذي شجعني على كتابة بحثي ” الوحدة الفنية في سورة العاديات “وعرضته على استاذي د فاضل السامرائي الذي شجعني على السير في هذا الطريق ، وابدى ملاحظات استفدت منها في حياتي العلمية .
واعجبني بالدكتور حسام النعيمي التزامه الصارم بالمذهب البصري ، بغض النظر عن اتفاقي معه أو اختلافي عنه ، وكان ينهل من التراث النحوي ويحلل القضايا النحوية وبخاصة في تأملاته من كتاب سيبويه ، نعم كان حسام النعيمي تقليديا في نزوعاته الدينية والعقائدية الى حد التعصب في احايين كثيرة ، ولكنه كان متبحرا في الدرس النحوي ، اذ يكشف عن تجليات المنطق النحوي ويقدم تفسيراته بحسب الرؤية البصرية .
ولم اكن اخطط لنفسي ان أكون لغويا أو نحويا أو صرفيا ، لأني اعتقد ان هذا ليس ميداني، وانما كان توجهي فكريا وفلسفيا ونقديا ، بمعنى اني في الجهة الأخرى ، في الدرسين الادبي والنقدي ، حيث كنت اعتقد كما قال د رمضان عبد التواب ،ان الناقد لغوي أولا .
ولقد كنت محظوظا أيضا حين رعاني ثلاثة من كبار أساتيذ النقد الادبي ، الدكتور هادي الحمداني ، والدكتور عناد غزوان ، والدكتور جلال الخياط ، فلقد اغدقوا علي برعايتهم العلمية والابوية ، ولقد كانوا يقدرون وجهات نظري التي اعرضها امامهم على الرغم من تواضعها ، وحين قيل ان الدراسات العليا ستفتح في جامعة بغداد ، بادر الدكتور هادي الحمداني فطلب مني ان يكون مشرفا علي في الماجستير والدكتوراه ، ولكن الأمور سارت بما لا تشتهي السفن !! .
لقد درسنا الدكتور هادي الحمداني ثلاثة مواد في السنة الثالثة ، الادب العباسي ، والبحث الادبي ، والبحث الخاص ، اما البحث الادبي فلقد طلب منا ان نختار موضوعا لدراسته وتابعنا ، بعد ذلك ، بالخطة وجمع المادة ، والكتابة ، اما البحث الخاص وهذا عمل جيد وجديد ، ان يشرح لنا الأستاذ تجربته في اعداد اطروحته للدكتوراه ، وكان موضوع أطروحة الدكتوراه للدكتور هادي الحمداني ” روميات ابي فراس الحمداني ” وقد حصل عليها من جامعة بريطانية ، وكلفني انا شخصيا ان اكتب بحثا عن ” لماذا تأخر سيف الدولة عن فداء ابي فراس ” وحين عرضته امامه وامام زملائي ، واستغرق درسا كاملا ، قال الدكتور الحمداني : هذا أفضل بحث قدمة لي طالب خلال عشرة أعوام .
اما الادب العباسي فلقد شرع في اول محاضرة له عن التغيرات التي طرأت على القصيدة العباسية ، ثم سأل هل احد منك يحفظ بيتين من الشعر العباسي ، وتلفتت يمينا ويسارا فلم اجد أحدا يرفع يده ، فرفعت يدي وطلب مني الدكتور هادي الحمداني ان اقف امام الطلاب ، وان اكتب البيتين الشعريين ، فكتبت بيتين للمتنبي :
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الابطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
وبعد فراغي من كتابة البيتين طلب مني ان اقرأ ، فقمت بإنشادهما ، وكأني في مجلس خطابة ، فسألني لماذا انشدت البيتين ، ولماذا سكنت حرف الواو من كلمة الموت ، وهل انا نجفي ؟
فأجبته ان الشعر ان لم ينشد بفقد جماله وبريقه ، اذ ليس جميلا ان تقرأ الشعر بطريقة نثرية ، وقمت بقراءة البيتين كما لو انني مكره على قراءتهما ، ومن هنا بدأت علاقتي العلمية الوثيقة مع الدكتور هادي الحمداني ، فلقد رعاني رعاية خاصة استمرت حتى مغادرتي الى القاهرة لإكمال دراستي ، بعد ان عرضت عليه خطة بحثي ” نقد القصة القصيرة في العراق ” .
اما استاذي د عناد غزوان فلقد لفت أنظارنا الى منهجه النقدي وطريقته في التحليل والكشف النقدي ، واخذ يطوف فينا في النقد العربي القديم ، من الاصمعي في فحولة الشعراء ومرورا بابن سلام الجمحي وابن قتيبة وانتهاء بنقاد القرن الرابع الهجري .
ويتوغل د عناد غزوان بعمق في طبيعة النصوص النقدية والأدبية ، ويكشف عن تجلياتها الجمالية ، ولذلك ردم فجوة كبيرة في خبرتنا النقدية المتواضعة ، ولذلك اشعر اني تسلحت بمنهجين مختلفين : منهج د هادي الحمداني في تحليل النصوص وبخاصة العباسية منها ، وبالأخص شعر ابي فراس الحمداني ، ومنهج د عناد غزوان في الدرس النقدي للتراث والكشف عن نظرية نقدية عربية .
اما د جلال الخياط فلد كان له الفضل في الكشف عن تجليات النقد الحديث والادب الحديث ،وكان له أسلوبه الخاص في التحليل والكشف عن الجماليات التي يشتمل عليها النص الشعري ، صورة وايقاعا وبنية ، واخذ يحلل لنا نصوصا أدبية تراثية وحديثة .
وكنت اتابع إنجازات الأساتذة الكبار ، سواء أكانت كتبا ام مقالات ام محاضرات عامة أو مناقشات رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه ، الامر الذي فتح امامي ابوابا كثيرة ، لم استطع ردمها حتى الان ، لان وراء كل باب الف باب .